ممارسات عدة شهدها الاقتصاد الأميركي للخروج من أزماته المالية، ووجد أنه في كل مرة تكون الأزمة أكبر من سابقتها.
ففي عام 2010، وجد الرئيس السابق باراك أوباما في سياسة التيسير الكمي مخرجا لتنشيط الطلب داخل الاقتصاد الأميركي، فقام بشراء ديون وسندات أميركية من الداخل الأميركي بنحو 600 مليار دولار.
لكن في ظل أزمة وباء كرونا، وجد الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه، يتجاوز تصرف إدارة أوباما بكثير، حيث وافق مجلس النواب على اعتماد زيادة الدين العام الأميركي بنحو 2.2 تريليون دولار، كحزمة لتحفيز الاقتصاد الأميركي.
وبحسب تصريحات بعض أعضاء الكونغرس، فإنهم قبلوا هذا التصرف باعتبارهم يعيشون ما يمكن اعتباره "حالة حرب" مع وباء كورونا.
وقضية الدين العام في أميركا من القضايا الشائكة، وخاصة مع مجيء إدارة ترامب التي تعبر عن توجهات اليمين، وتتبنى سياسات اقتصادية تؤدي إلى خفض الضرائب وزيادة الديون.
فمن قبل تم تعطيل بعض خدمات الحكومة الأميركية في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2018، بسبب خلاف الجمهوريين والديمقراطيين على اعتماد الميزانية، والتي كان يرغب فيها ترامب باعتماد مبالغ لإقامة جدار على الحدود مع المكسيك لمنع المهاجرين غير النظاميين.
ملامح حزمة التحفيز
من الأهمية بمكان أن نفرّق بين تداعيات تبني الحكومة الأميركية حزمة تحفيز في ظل أزمة وباء كورونا، وبين تصرفها نفسه في أزمة عام 2008.
ففي ذلك الوقت كانت حزمة التحفيز لمعالجة أخطاء ارتكبتها الشركات والبنوك والمؤسسات المالية، بينما هذه المرة، فإن وباء كورونا مثّل تهديدا خارجيا فرض نفسه على الشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية في أميركا والعالم كله.
ومن هنا أتت حزمة تحفيز الاقتصاد الأميركي التي وقع عليها ترامب بعد موافقة مجلس النواب والكونغرس، بنحو 2.2 تريليون دولار، لتضم خمسمئة مليار دولار لدعم الصناعات المتضررة، ونحو 290 مليار دولار لمساعدات العائلات الأميركية، بحد أقصى ثلاثة آلاف دولار تدفع مرة واحدة.
وكذلك تقديم قروض للشركات بنحو 350 مليار دولار، و250 مليار للتوسع في تغطية برنامج إعانات البطالة، وكان قطاع المستشفيات والأنظمة الصحية ذات الصلة، هو القطاع الأقل دعما في حزمة التحفيز بنحو مئة مليار دولار.
حقيقة المديونية الأميركية
تعد أميركا صاحبة أكبر دين بين دول العالم، ففي فبراير/شباط 2019 أعلنت وزارة الخزانة الأميركية أن الدين العام بلغ 22 تريليون دولار.
وتشير التقديرات في مطلع 2020، إلى أن هذا الدين قفز إلى 23 تريليون دولار، وباعتماد ترامب لديون حزمة التحفيز، سوف يصل الدين العام الأميركي إلى 25 تريليون دولار.
وفي عام 2019، تكبدت الحكومة الأميركية 580 مليار دولار كفاتورة عن فوائد الدين العام، وهو ما يمثل نسبة 1.7% من الناتج المحلي الأميركي.
ويرى الخبراء الاقتصاديون أن هذه النسبة أقل مما كان عليه الوضع عام 1999، حيث كانت نسبة فوائد الدين العام تمثل حوالي 3% من الناتج المحلي الأميركي، لذلك يذهب بعضهم إلى القول إن الاقتصاد الأميركي يمكنه الحصول على المزيد من القروض.
وإذا ما كان الدين العام الأميركي قد بلغ 25 تريليون دولار، فإن ثمة ودائع للحكومة الأميركية لدي المصارف تقدر بنحو 6 تريليونات دولار، وهو ما يعني أن صافي الدين العام الأميركي هو 19 تريليون دولار فقط.
ولذلك نجد أن الدين العام الأميركي يبلغ نسبة تصل لنحو 92% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 20.6 تريليون دولار، وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
من أين تموّل أميركا هذا الدين؟
يذهب الخبير الاقتصادي كينيث روجوف الأستاذ بجامعة هارفارد -في حديثه مع شبكة "سي بي إس" (CBS) الإخبارية، يوم الجمعة 27 مارس/آذار 2020- إلى أن مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي (البنك المركزي) سوف يسجل قيمة حزمة التحفيز في حساباته، نظير أن يقوم بإصدار سندات ليتحصل على قيمة المبلغ من الأفراد والشركات، ثم يضع المبالغ المخصصة لكل قطاع قيد التصرف.
والجدير بالذكر أن مجلس الفدرالي الأميركي كان قد قام منذ عشرة أيام مضت، بشراء سندات من السوق الأميركي بحوالي 1.5 تريليون دولار، لتعزيز السيولة في الأسواق ومواجهة التداعيات السلبية لوباء كورونا.
الأثر الاقتصادي المتوقع
في ضوء السياسات الاقتصادية، يعد التصرف الأميركي سليما، حتى لا يقع الاقتصاد في مستنقع الركود، وتزداد حدة التداعيات السلبية على الجانبين الاقتصادي والاجتماعي، لذلك وجدنا حزمة التحفيز ضمت مساعدات للأسر، وكذلك دعما لبرنامج إعانة البطالة.
وعلينا استيعاب أن الحكومة الأميركية قدمت الجانب الأكبر من هذه الأموال كقروض للشركات، سواء تلك التي تضررت من الأزمة، أو التي ترغب الحكومة في تحفيزها لممارسة النشاط الاقتصادي، وبالتالي فسترد هذه الأموال مرة أخرى للخزانة الأميركية، وسيكون عبء حزمة التحفيز متمثلا في الدعم الاجتماعي غير المسترد.
ولن تلجأ الحكومة الأميركية لطباعة النقود، إلا إذا كانت عملية طرح السندات الحكومية دون تحصيل مبالغ حزمة التحفيز، وهو مالا يحدث في العادة، وخاصة في حالة أميركا.
ولعل ميزة السندات بشكل عام أنها تعطي عائدا أعلى من السائد لدى المصارف، ولذلك وجدنا وكأن الخطوات التي اتخذتها الحكومة الأميركية مرتبة، حيث خفضت سعر الفائدة أولا ليكون بحدود "صفر-0.25%"، ثم أعلنت عن حزمة التحفيز وطريقة تمويلها.
اعلان
ولذلك يتوقع أن لا تتجاوز تكلفة اقتراض مبلغ 2.2 تريليون دولار 0.50% أو 0.75% على أعلى تقدير.
ومتى انتهت الإجراءات الاحترازية لمواجهة وباء كورونا في أميركا، فسيكون لهذه الحزمة التحفيزية أثرها الإيجابي على الاقتصاد الأميركي وانتشاله من الركود بشكل عام، والتداعيات السلبية لوباء كرونا بشكل خاص.
وثمة ملاحظة عامة نحسب أن الحكومة الأميركية تعلمتها من تجربة معالجتها لأزمة عام 2008، وهي مراقبة الشركات من أن توظف ما حصلت عليها من مساعدات أو قروض في شراء أسهمها بالسوق، مما يؤدي إلى تحسين أسعارها، لتحقيق أرباح وهمية بعيدا عن تنشيط الطلب.
أوروبا على خطى أميركا
كما حدث في معالجات الأزمة المالية العالمية عام 2008، حيث قامت أوروبا في ذلك الوقت بإصدار خطط كبيرة في إطار سياسة التيسير الكمي، فهي الآن تتبع نفس الخطوات بعد خطوة الإدارة الأميركية في حزمة التحفيز بنحو 2.2 تريليون دولار.
فقد أقر البرلمان الألماني في 25 مارس/آذار 2020، حزمة تحفيز بنحو 1.1 تريليون يورو، منها 156 مليار يورو لدعم الشركات والموظفين ونظام الصحة، وباقي المبلغ لضمانات قروض المصارف الممنوحة للشركات.
وعلى المستوى الأوروبي كله، كان البنك المركزي الأوروبي قد طرح برنامجا لشراء الديون العامة والخاصة في 19 مارس/آذار 2020، بنحو 750 مليار يورو، وذلك في ضوء معالجته لتداعيات كورونا.
وإن كان يلاحظ أن أضرار كورونا بأوروبا -في ضوء المعلن عنه منذ بداية الأزمة- هي الأكبر على مستوى العالم، بسبب التداعيات الكارثية في إيطاليا وإسبانيا.
ولكن ستكون كافة الإجراءات المتخذة على صعيد السياسة المالية في كل من أميركا وأوروبا رهن السيطرة على وباء كورونا.
فبدون ذلك لن تكون المبالغ التي تم ضخها كافية لمعالجة الأزمة، بل ستجد أميركا وأوروبا أنهما -بعد فترة- مطالبتان بضخ مبالغ جديدة لنفس الأسباب، أي تضرر الأسر، وتضرر الشركات، وحاجة المؤسسات الصحية إلى مزيد من الأموال لتقديم الرعاية الصحية اللازمة لعلاج المصابين.