ها قد حلّ "كابوس" أول الشهر الذي يطارد اللبنانيين في يومياتهم العادية (وهي بالمناسبة لا تشبه يوميات مواطنين يعيشون في دول تحترم نفسها وشعبها). لكن بداية نيسان، ستكون ثقيلة، وكابوسية فوق الكابوس نفسه، تترافق مع حجر المواطنين في منازلهم، خوفًا من التقاط عدوى "كورونا"، وانقطاع مئات الآلاف عن موارد رزقهم وعيشهم، أو خسارة أعمالهم بشكلٍ كامل.
حكومة اللادولة
بعد مضي شهر وأسبوع على بدء لبنان بتسجيل حالات المصابين بفيروس "كورونا"، باشرت الحكومة باتخاذ حزمةٍ من الإجراءات الوقائية، أعلنتها تباعًا، وقد تكون ماضية في التشدد بعد أن أصبح التجوّل في الليل محظورًا. لكنّ هذه الحكومة، وهي حكومة اللا دولة، أو الدولة الساقطة بفسادها ومديونيتها وإفلاسها، وجدت بـ"كورونا" سبيلًا لبسط هيبتها وسلطتها المفقودتين، فبدتْ في المقابل عاجزةً، وحتّى فاشلةً، عن تأمين الحدّ الأدنى من الأمن الاجتماعي، الذي يقي الناس من شرّ استمرار احتجازهم في منازلهم من دون عمل.
وبعد مضي أسابيع عدة على انتشار هذا الوباء، فكرت الحكومة أخيرًا أن ترصد من شحّ ميزانيتها، مبلغًا خجولًا لتأمين الحصص الغذائية للعائلات الأكثر فقرًا. لكنّها حتّى الآن، لم تباشر بالتوزيع الفوري رغم التفاقم السريع لتداعيات الحجر المنزلي، بسبب المماطلة في الآلية التي ستمرّ بها عملية رصد العائلات المحتاجة، بين البلديات والمخاتير ووزارة الداخلية، وهي غالبًا لن تحسن في رصد جميعها بشكلٍ دقيقٍ وكامل.
ثقافة الكرتونة
تظن الحكومة، كما حال أحزاب لبنان وتياراته التي تنتهز الأزمات، أنّ مجرد علبة كرتونية تحتوي على كيلوغرامات قليلة من الأزر والعدس والسكر والمعلبات والزيت وربطات المعكرونة، ستؤمن حصانة الأمن الاجتماعي، وتُرضخ الناس للبقاء في منازلهم. تعيش هذه الحكومة وأحزاب السلطة في غيبوبةٍ فعلية، ويستمرون بخديعة الناس واستمالتهم بـ "ثقافة الكرتونة". يظنون أنّ إلتزام المواطنين بقرارات التعبئة العامة، ينبع من إيمانهم وثقتهم بحرص الدولة على حياتهم. إنّهم محجرون لخوفهم من "الموت" فحسب.
آلاف اللبنانيين، تركوا أشغالهم، طُردوا من أعمالهم اليومية، والتزموا الحجر في منازلهم، فوجدوا أنفسهم بين ناري الخوف من "الجوع" أو "الموت". لكنّ ذلك الجوع الذي يعانيه المواطنون، لا يقتصر على الطعام فقط، كما تظنّ "سلطة الحصص الغذائية" وإعلامها المُطبّل. الجوع في وعي اللبنانيين، لا تسدّه علبة كرتونية، ولا بتوزيع باقة انترنت مجانية بـ 500 ميغابايت، لا توازي ذرّة في قطاع الاتصالات الذي لم يكفّ يومًا عن نهبنا. ذاك الجوع، هو الخوف من "الذلّ"، أو بتعبير شعبي: الخوف من "البهدلة". فمن سيدفع إيجارات المنازل وفاتورة الكهرباء والهواتف والماء والمولد الكهربائي؟ من سيؤمن كلفة فواتير الدواء الشهرية لمواطنين لا يتمتعون بالتغطية الصحية؟
الموظفون والمياومون
في حسبةٍ بسيطة لمدخول مواطن عادي يتقاضى الحدّ الأدنى للأجور، وقد تدنت قيمته الشرائية بما لا يتجاوز 200 دولار أميركي، في ظلّ انهيار الليرة وتلفت السوق السوداء، فهو لا يكفيه في الأصل لتسديد إيجار منزله وبعض فواتيره الشهرية المتراكمة. ثمّ بالنظر إلى العاملين في القطاع الخاص، نجد أنّ شريحة واسعة منهم انقطعت رواتبهم هذا الشهر، أو تقاضوا نصف راتب في أحسن الأموال، أو حرمهم المصرف من راتبهم إن كان مدولرًا، أو احتجز مدخراتهم القليلة التي جنوها طوال عمرهم وسنين كدحهم في العمل، أو صاروا عاجزين عن تسديد ديون وقروضٍ استدانوها لتأمين العيش بكرامة.
أمّا عن أحوال المياومين في لبنان، فهنا الفاجعة، وكوارثهم تتفوّق بأضعافٍ على الخوف من الإصابة بفيروس "كورونا". إنهم بمئات الآلاف في لبنان. من البقاع إلى الجنوب والضاحية فطرابلس وعكار. يعيشون يومًا بيوم، بمعدل 20 ألف ليرة لبنانية فقط من دون أيّ ضمانٍ لحياتهم وصحتهم وأولادهم. هؤلاء هم الأكثر تضررًا. لكنهم مهمّشون ومنسيون، ولا يملكون ترف الاقتراض من البنوك التي لم تطأها أقدامهم يومًا. لا يملكون راتبًا شهريًا، ولا يتمتعون بتغطية صحية. يعملون في أيّ شيء من دون أن يلحظهم أحد. في العتالة وجرّ العربات، في ورشات البناء والحديد والخشب والتنظيف وشطف الأدراج، في الأسواق والمحلات والمصانع التي تستغل عمالها. وهم اليوم جميعًا، يجلسون في منازلهم من دون مالٍ ولا أكلٍ ولا دواء، يكتمون غيظهم وحاجاتهم، لكنّهم سينفجرون حتمًا، وقد بدأت بوادر ذلك.
غضب الأحياء الشعبية
منذ أيام، بدأت تنطلق في كلّ ليلة تظاهرات شعبية متفرقة بين المناطق، كحيّ السلم وطرابلس، للتعبير عن معاناتهم وفقدانهم الصبر في الاستمرار بالحجر، محتاجين وجائعين من دون عمل. هؤلاء المهمشون والمنسيون، بدأوا يتحسسون الخطر الذي يداهمهم في أول الشهر، وهم يعجزون عن تسديد أيّ من مستحقاتهم. أمّا الدولة العاجزة، فترمي كما تعودت ثقل المسؤولية على المتبرعين والجميعات والمجتمع الأهلي والمحلي. لكنّها لم تعِ حتّى اللحظة، أنّ خطورة هذه المرحلة الذي يرافقها الانهيار والإفلاس والغلاء الفاحش في الأسعار، لن تنقذ أيّ متضرر علبة كرتونية.
من يراقب الشارع، لا يجد مبالغة بالقول أنّ الانفجار الاجتماعي بات قريبًا، وأن الناس قد تخرج في غضون أسابيع قليلة إلى الشوارع غاضبة وناقمة، وقد تقبل خيار التعايش مع فيروس "كورونا" مقابل كسب رزقها، بدل البقاء محتجزة بذلٍ في منازلها. في طرابلس، لا يكفّ الإعلام والناس من خلف شاشاتهم الافتراضية، لرصد الأسواق الشعبية المكتظة وبعض الأحياء الفقيرة التي يخرق أبناؤها التعبئة العامة ويخرجون خلسةً من منازلهم للعمل، ولو مقابل أجرٍ زهيد يناهز 10 آلاف ليرة لبنانية. كثيرون يتنمرون عليهم، ويصفونهم بأبشع الألفاظ وحتّى يشتمونهم، كما لو أنّهم وباء متنقل.
ذات مرة، سُأل رجل كان يهرب كل يوم من منزله للعمل عن سبب عدم التزامه الحجر، وأنه قد يشكل خطرًا على نفسه وعائلته، فأجاب غاضبًا: "لما ما يكون معكم تجيبوا لا حليب ولا حفاضات لابنكم الصغير، تبقوا خليكم بالبيت".