قبل الوصول الى مرحلة تجميد دفع الديون وبعدها، دارت نقاشات حول الحصانة التي تتمتّع بها احتياطات البنك المركزي وموجوداته، وبرز رأي قانوني يؤكد انّ الذهب في أمان، لأنه لا يجوز قانوناً المَس بالذهب الذي يعتبر من ضمن ممتلكات مصرف لبنان. في المقابل، برز رأي قانوني آخر، يُبدي تخوّفاً من أن تعمد المحاكم الاميركية الى الاجتهاد لجهة إثبات وجود ترابط بنيوي بين الدولة والبنك المركزي، وأن يُصار الى مصادرة الذهب لدفع حقوق المُقرضين.
الى جانب النقاشات القانونية، ظهرت نقاشات من نوع آخر، في شأن وجود الذهب خارج لبنان، بما يُعتبر برأي المعترضين نقطة ضعف تمسّ السيادة اللبنانية أولاً، على اعتبار انّ هذه الثروة ينبغي أن تبقى في لبنان، لأنّ مكان وجودها برأي هؤلاء مفصلي في تقرير مصيرها. بمعنى انّ لبنان يستطيع أن يحتفظ بالذهب، وأن يمتنع عن تنفيذ أي قرار صادر عن محكمة اميركية بمصادرة الذهب، في حين انه عاجز عن ذلك، عندما يكون الذهب موجوداً في الولايات المتحدة نفسها!
من حق اللبنانيين أن يقلقوا على مصير الذهب، الذي يصل حجمه إلى 286,8 طناً (نحو 10 ملايين و116 الفاً و572 أونصة) بقيمة إجمالية تبلغ اليوم حوالى 16 مليار دولار. والمفارقة أنّ لبنان الذي أغلق أبوابه المالية وبات في مرحلة إنفاق ما لديه من احتياطي بالدولار في مصرف لبنان، سيضطرّ الى إنفاق ما تبقّى من ودائع على صورة احتياطي في مصرف لبنان (حوالى 18 مليار دولار)، خصوصاً في ظل الضغط الاضافي الذي تسبّب به فيروس كورونا. وبالتالي، قد يكون الذهب كل ما سيتبقّى من موجودات بعد انقشاع غبار المفاوضات والدعاوى القضائية وبدء خطة الانقاذ، في حال بدأت.
لكنّ الواقعية تفترض الاعتراف بأنّ الابقاء على الذهب مُجمّداً لا ينقذ الاقتصاد والودائع، وبيعه واستخدام أمواله لا يحلّ المشكلة. وتكرار الاخطاء، من خلال التصويب على مكامن لا علاقة لها بالخلل الذي يتسبّب بالأزمات، لن يجدي.
في هذا السياق، لا بد من مراجعة التجربة الفنزويلية قبل التجربة اليونانية لاستخراج الدروس والعبَر، خصوصاً لمَن يعتقد انه بمجرد تحويل الاقتصاد من ريعي الى منتج، تنتهي الأزمة.
في العام 2009 كان معدّل الدخل الفردي في فنزويلا 13 الف دولار، وكان تصنيفها في هذا الاطار في المرتبة 85 عالمياً، وهي مرتبة اكثر من جيدة، وتعني انّ مستوى عيش المواطن الفنزويلي كان مرتفعاً. وشكّلت الصناعة حوالى 17 % من الدخل القومي (GDP) وهي نسبة جيدة ايضاً قياساً بدولة نفطية، بما يعني انّ الدولة كانت تمتلك قطاعاً صناعياً منتجاً ولم يكن اقتصادها مجرد اقتصاد ريعي.
في المجال النقدي، كوّنت فنزويلا احتياطياً كبيراً من الذهب، بحيث شَكّل 60 % من الاحتياطي العام في مصرفها المركزي. وأصبح حجم احتياطي الذهب لديها يساوي ثمانية أضعاف معدل امتلاك دول اميركا اللاتينية من الذهب. وقد تمّ تخزين هذا الذهب في لندن.
في العام 2011، اعتبر الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز انّ وجود الذهب خارج بلاده هو انتقاص من سيادتها، وانّ فرض السيادة الفنزويلية على ذهبها، يفترض إعادته من الخارج. وفي 25 تشرين الثاني 2011 وصلت طلائع السبائك الذهبية الى كاراكاس، وسط بهجة واحتفالات ارتدَت الطابع الوطني، لدى قسم كبير من المواطنين الفنزويليين الذين اعتبروا انّ ثروتهم الذهبية كانت في خطر، وأصبحت اليوم آمنة في الوطن. في ذلك التاريخ، كان ذهب فنزويلا يساوي حوالى 11 مليار دولار.
في العام 2013 اصبحت البلاد بلا أي تغطية ذهبية. إذ لم يستغرق الحكومة الفنزويلية وقتاً طويلاً لكي تنفق ايرادات الذهب الذي جرى تسييله لدعم الاحتياطات وتمويل الانفاق.
قبل هذه الفترة، عرفت فنزويلا حقبة ذهبية مع بدء تصديرها النفط، وكانت دولة طليعية وعضواً مؤسّساً لمنظمة «أوبك». ويبلغ الاحتياطي النفطي المؤكد لديها حالياً، 79,7 مليار برميل. ويبلغ احتياطي الغاز حوالى 4838 مليار متر مكعب.
ولا بد من التذكير أنّ أزمة فنزويلا المالية الاولى في العصر الحديث حصلت في العام 1980 وامتدت في التسعينات، وصولاً الى اليوم حيث تبدو الأزمة أقرب الى كارثة حقيقية في مستويات الفقر العام، وعجز الدولة عن الوقوف مجدداً على رجليها، رغم الثروة النفطية والغازية والثروات الطبيعية التي يتمتّع بها هذا البلد الذي كان في يوم من الأيام مقصداً للأميركيين من الدول اللاتينية، وحتى لعدد كبير من الأوروبيين الذين قدموا إليه للعمل، بسبب فرص العمل المهمة، ومعدّل الدخل المرتفع.
نقطة أخيرة تستحق الذكر، تتعلق بقرار فرض قيود على الاموال والرساميل (Capitals control) اعتمده شافيز في العام 2003 لمنع هروب الرساميل، الأمر الذي أدّى الى ظهور سوق سوداء للدولار رديفة للسوق الرسمي، حيث أصبح يتم تداول الدولار بـ6 أضعاف سعره الرسمي...
الحكومة اللبنانية ضَلّت الطريق، والطريقة التي تتمّ فيها مقاربة ملف التعيينات المالية، كذلك الطريقة التي اعتمدت لإسقاط مشروع الكابيتال كونترول، تعني عملياً سقوط الآمال المُعلّقة على الحكومة للانقاذ. هذا الواقع يقود الى الاستنتاج بأننا سننفق الـ22 مليار المتبقية في مصرف لبنان، ومن ثمّ سنقول للناس إنه لم يبق معنا ما نسدّ به رمق الجوع، وتحت بند «الضرورات تبيح المحظورات»، نستدعي الذهب (اذا لم يكن مُجمّداً بقرار قضائي خارجي) ونُنفقه، بعد إسقاط قانون منع بيعه. عندها، نكون قد انتهينا من محاولات فاشلة للتشبّه بالتجربة اليونانية، وانضَممنا رسمياً، ومع مرتبة شرف، الى التجربة الفنزويلية التي لم تتنه فصولاً بعد.