تحت جنح انتشار وباء كورونا، تحصل أمور خطيرة في دول معيّنة من بينها لبنان. فجأة أعلنت الحكومة اللبنانية أن لبنان سيتوقف عن تسديد ديونه الخارجية. وهي ديون بالعُملة الصعبة تراكمت منذ العام 1998. نعم منذ العام 1998، تاريخ وصول إميل لحّود إلى رئاسة الجمهورية بهدف واحد وحيد هو الانتقام من رفيق الحريري.
تؤكّد ذلك لغة الأرقام. قبل العام 1998، لم يكن الدين الخارجي للبنان يتجاوز خمسة أو ستة مليارات دولار في أسوأ تقدير. استخدم الدَّيْن وقتذاك من أجل إعادة بناء البنية التحتية التي دمرتها حروب استمرّت منذ 1975 إلى 1990، تاريخ خروج ميشال عون من قصر بعبدا الذي كان فيه رئيسا لحكومة موقتة لا هدف لها سوى انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل في أيلول – سبتمبر 1988. لم يقبل ميشال عون مغادرة القصر الجمهوري إلا بعد خوض حربين، الأولى مع المسلمين والأخرى مع قسم من المسيحيين بهدف استكمال تدمير ما لم يدمّر بعد من البلد.
لماذا لا تعلن الحكومة الحالية برئاسة حسّان دياب صراحة أن لبنان أفلس، وأن عليها الإتيان بمن يشير إليها بما يتوجّب عليها عمله للخروج من الانهيار… هذا إذا كان مثل هذا الخروج ما زال ممكنا.
في تاريخه الحديث، أي منذ الاستقلال في العام 1943، لعب المنطق دوره في تمكين لبنان من تجاوز أزمات كثيرة عصفت بالمنطقة. كان مهمّا ألا يكون رئيس الجمهورية الماروني شخصا متهوّرا. لذلك، لم يسقط لبنان في فخّ حرب العام 1967. حافظ على أرضه، كلّ أرضه، لأنّ رئيس الجمهورية، وقتذاك، كان شارل حلو. كان شارل حلو رجلا مثقّفا ومسالما وصاحب عقل راجح، أصرّ على بقاء لبنان خارج الحرب التي لا تزال المنطقة كلّها تعاني إلى الآن من تداعياتها.
لم يدرك اللبنانيون أهمّية بقاء بلدهم خارج تلك الحرب، التي كلّفت مصر وسوريا والأردن الكثير، إلّا بعد انتهائها. لم يستوعبوا أن ما أنقذ بلدهم كان درهم منطق ودرهما آخر من الواقعية امتلكهما رئيس الجمهورية. وفّر هذان الدرهمان على أهل الجنوب ولبنان الكثير. لكنّ لغة العقل لم تدم طويلا، إذ اضطر لبنان في العام 1969 إلى إقحام نفسه في صراع لا أفق له باستثناء أفق دخوله نفقا مظلما لم يخرج منه إلى اليوم.
ما قصة دخول لبنان النفق المظلم في غاية البساطة. عندما تغلب المزايدات على كلّ ما عداها، لا يعود مكان للغة العقل. في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1969، أُجبر لبنان على توقيع اتفاق القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية. شرّع ذلك أبوابه أمام ما هو أسوأ من مشاركته في حرب 1967. كان المنطق يقول إنّ مثل هذا الاتفاق سيجلب الخراب على لبنان، أقلّه لسبب واحد. هذا السبب يتمثل في أن الفلسطينيين لا يمكن أن يحرروا شبرا من أرضهم انطلاقا من جنوب لبنان. استخدم ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، هذه الورقة التي اسمها لبنان إلى أبعد حدود. لم تأخذه إلى أبعد من اتفاق أوسلو الذي يشكّ كثيرون في أنّه قرأه قبل أن يوقّع عليه في حديقة البيت الأبيض في أيلول – سبتمبر من العام 1993 مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين.
لم يكن مصير لبنان يهمّ ياسر عرفات في أيّ وقت. ولكن هل من الطبيعي ألا يهمّ اللبنانيين؟ الكلام هنا عن لبنانيين ما زالوا يرفعون شعار “المقاومة” و”الممانعة”، بمن فيه رئيس الجمهورية الحالي وصهره جبران باسيل الذي يعتقد أنّ “حزب الله” ممرّ إجباري للوصول إلى رئاسة الجمهورية.
حسنا، حصل الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في أيّار – مايو من العام 2000. يوجد قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يؤكّد أن إسرائيل طبّقت القرار 425. ليس طبيعيا أن يبقى هناك من ينادي بـ”طريق القدس” انطلاقا من جنوب لبنان. لا بدّ من امتلاك ما يكفي من الشجاعة للقول إن لبنان في حال يرثى لها وأن الدَّيْنَ المترتب عليه هو نتيجة سلسلة من المواقف الخاطئة التي قامت على المزايدات. لا تطعم المزايدات خبزا ولا تبني دولا. كلّ ما يمكن أن تؤدّي إليه هو ما آل إليه لبنان.
بتهرّبه من دفع ديونه، يدفع لبنان حاليا ثمن أمرين لم يتبدلا منذ العام 1969 الأمر الأوّل هو المزايدات والابتعاد عن المنطق والحكمة. مارس معظم السنّة المزايدات في 1969، وهي انتقلت الآن إلى أن تصبح مزايدات ذات طابع شيعي بعد كلّ الجهود التي مارستها إيران منذ العام 1982 لتغيير طبيعة هذه الطائفة في لبنان.
الأمر الآخر هو استعداد عدد لا بأس به من الزعماء الموارنة لعمل أيّ شيء كي يكون أحدهم رئيسا للجمهورية. وهذا ما حصل بالفعل منذ توقيع اتفاق كنيسة مار مخايل بين ميشال عون وحسن نصرالله في شباط – فبراير من العام 2006. تأكّد في تلك اللحظة غياب أي إدراك لدى كثير من المسيحيين لخطورة العودة إلى الذهنية التي أدت إلى اتفاق القاهرة المشؤوم.
لدى العودة إلى لغة الأرقام، يتبيّن أنّ ملفّ الكهرباء تسبّب بنصف الدين اللبناني الذي يبلغ نحو 86 مليار دولار. ملفّ الكهرباء هذا مسؤول عنه “التيّار الوطني الحر”، التابع لرئيس الجمهورية وجبران باسيل المصر على إدارة هذا الملفّ منذ ما يزيد على عشرة أعوام بتغطية من “حزب الله”.
الأهمّ من ذلك كلّه، أن أكثر ما يفتقده لبنان حاليا هو الشجاعة والحكمة والمنطق، بديلا من مواضيع الإنشاء ونصائح “أبوملحم” (شخصية شعبية لبنانية اشتهرت في ستينات القرن الماضي عبر حلقات تلفزيونية). توجد في البلد حكومة لا تستطيع أن تقول للبنانيين ما مصير ودائعهم في المصارف، حكومة عاجزة عن استيعاب أبعاد إفلاس البلد، ومعنى انهيار النظام المصرفي فيه، إضافة بالطبع إلى خطر وجود رئيس للجمهورية لا يريد الاعتراف بأنّ رفع شعار “المقاومة” بمثابة انضمام إلى جوقة المتاجرين بلبنان، وأنّ لا عيب في الاستعانة بصندوق النقد الدولي.
اعتمد لبنان طويلا على العرب وعلى تحويلات اللبنانيين العاملين في دول الخليج. اعتمد على نوع من التغاضي الأميركي عن “حزب الله” وعن رغبة في عدم هزّ الوضع الداخلي. أمور كثيرة تغيّرت الآن. ما لم يتغيّر هو ما قاد إلى كارثة اتفاق القاهرة قبل نصف قرن من الزمن… عدم حصول هذا التغيير سيأخذ لبنان إلى كارثة أكبر من كارثة اتفاق القاهرة وما استتبعه!