إن أغلب الذين يختارون الانخراط في سلك العملاء للأجنبي يكونون من ضعاف النفوس الانتهازيين الفاشلين الذين يستعجلون الحصول على المال والجاه، حتى لو باعوا أنفسهم وأوطانهم وأهلهم، أجمعين.
ومعروف، من تجارب الشعوب العديدة المتعاقبة أن الأجنبي يضع مصالحه هو فوق كل اعتبار. وبالتالي فإن قيمة أكبر عميل من عملائه لا تساوي عنده قيمة بعوضة. وحين تحكم تلك المصالح، فإنه يرمي عملاءه في سلال المهملات بأسرع من رمشة عين.
ودون استعراضٍ لأسماء ومناصب ومصائر فإن في جميع الدول ذات العاهات المستديمة التي تشبه دولتنا الفاشلة، أمثلةً عديدة قديمة وجديدة انتهى فيها العملاء الذين نصّبهم الأجنبي رؤساء ووزراء ومدراء وسفراء، إما قتلى تحت أقدام شعوبهم، وإما سجناء، وإما طريدين هاربين يتخفّون في البلاد البعيدة تلاحقهم العدالة ليل نهار.
أقول هذا الكلام وأنا أرى كيف عصفت كورونا وعقوبات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بجارتنا إيران، وكيف أصبحت تتسول المال لإعانتها على تجاوز مأزقها الخانق العظيم.
وبسبب كورونا وعقوبات ترامب تقطعت السبل بإذاعات وجرائد وأحزاب وميليشيات كانت تتمول من سيدها الطاعم الكاسي الحميم، فصارت، هي الأخرى، تتسول. وحين لم يسعفها، هو، أو أي أجنبي آخر غيره، راحت تتقلص وتتضاءل ويحمل أصحابها أنقاضهم ويغادرون الميدان.
أعرف جرائد، هنا في أميركا، كانت سمينة جدا، صفحاتها بالعشرات، وتطبع بمئات الآلاف من النسخ أسبوعيا، وتُنثر في الأسواق، مجانا، وفي الطرقات، وهي تناضل دفاعا عن قائدة محور الممانعة، ومحررة القدس، وتلعن أعداءها، وتشهر بهم، وتنعتهم بالعمالة للأجنبي، وبخيانة فلسطين والإسلام والمسلمين.
وها هي اليوم صغيرة وهزيلة، وتطبع فقط بثلاثة آلاف نسخة، وقد تهبط إلى ألف، وقد اختفى حماسها القديم، وخفت شتائمها لمن يعارض الله ورسوله وآله ووليه الفقيه.
وأعرف منظمات إسلامية، في أميركا، كانت إلى ما قبل كورونا وعقوبات ترامب، تنفق الملايين على المهرجانات الخطابية وحلقات الذكر، وعلى نشر البيانات والكتب والصور، لمناصرة “المجاهدين” اليمنيين والعراقيين واللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، ولتلعن كل من يقف ضدهم ويرفض إسلامهم، وكل من يمدّ خصومهم بالمال والسلاح لوقف “جهادهم”، وحماية الجماهير من دينهم المغشوش.
واليوم، فقط، خَفَتَ صوتُها، وقلَّ فِعالُها، وتوقّف صراخها وعويلها وضجيجها، وأصبحت أقرب إلى صمت القبور.
لم يحسبوا حساب الزمن الغدار، ولم يتوقعوا أن تأتي كورونا وعقوبات ترامب لتجعلا طاعمَهم وكاسيَهم يتوقف عن إرضاعهم، فجأة وعلى غير انتظار.
ففي العام 2014 قال المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، إن تدخلات بلاده في سوريا “تستند إلى المصلحة، رغم دكتاتورية الرئيس السوري بشار الأسد”.
ونقل القتيل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، عن وليه الفقيه، قوله إن “إيران تنظر إلى سوريا من باب المصلحة، بغض النظر عن اعتبار بشار الأسد دكتاتورا”.
وقال سليماني إن “بعض الأصدقاء الذين يتبوؤون مناصب كبيرة في الداخل والخارج كانوا ينصحون بعدم التدخل في سوريا والعراق، ويطالبون بالدفاع عن الثورة باحترام”. وقد “قال أحدهم، هل نذهب لندافع عن الدكتاتوريين؟، لكن المرشد أجابه: هل ننظر لأي حاكم للدول التي نقيم علاقات معها هل هو دكتاتور أم لا؟ نحن نراعي مصالحنا”.
وفي ما يخصنا نحن في العراق، فإن الخراب الذين عصف بالعراق والعراقيين، في السنوات العشر الأخيرة، هو جنونٌ يبدو، في ظاهره، محليا ناتجا عن صراع داخلي محض، ولكنه، في حقيقته، ليس كذلك.
فالفاعل الحقيقي الذي تسبّب فيه معروفٌ ومُشخّص بأنه الآمر الخارجي المُحرِض عليه.
إلا أن العتب ليس كلُه عليه، بل على من ارتضى أن يكون له خادما ينفّذ مخططاته، على حساب وطنه وأهله، ويضع حياته وأسرته رهينة لرضاه وإرادته ومصالحه، يتصرّف به وبها كما يشاء، ومتى يشاء.
ورغم أن الإخوة “المجاهدين” في البيت الشيعي الإيراني يتحمّلون الجزء الأكبر من المسؤولية عنه، بسبب فسادهم وطموحهم غير المشروع إلى الانفراد بالسلطة، واحتكارها، وسعيهم المَرَضي إلى جعل الدولة ملكاً لهم ولأبنائهم وأصهارهم وأفراد حماياتهم وأعضاء أحزابهم أو عشائرهم، إلا أن ما حدث وما يحدث هو مسؤولية متساوية يتحملها جميع الشركاء في المحاصصة، وأهمُهم وفي مقدمتهم الساسة الأكراد في الحزبين الكبيرين، وقادة الأحزاب والتجمعات والتنظيمات الانتهازية السنية، وبعض الحواشي الأخرى اللاصقة بأصحاب السلطة.
ألم يجعلهم يخونون بلادهم، ويبطشون بشعبهم، وبأبناء طوائفهم وقومياتهم قبل غيرهم، وبأن يسرقوا أموالهم، ليستحقوا، في النهاية، غضبة جماهيرهم، وهو منشغل عنهم، وغارق إلى أذنيه في مداواة جراحه، أولا، دون جراحهم، ويتركهم في انتظار حساب عسير، وحيدين، دون نصير أو معين؟ ألم نقل إن حبل الكذب والعمالة والخيانة قصير قصير قصير.