العارفون في مسار الاوضاع يقولون انّ هذه الحكومة بات يسودها فريقان: فريق يدافع عن المصارف وحيتان المال، وفريق آخر يتخاذل عن الوقوف في وجه ما يتخذ من قرارات تعرقل عملها وتنال من السيادة الوطنية، من مثل ما حصل في الضغط الاميركي الذي أدى الى إطلاق عامر الفاخوري وإخراجه من لبنان من دون المرور بأيّ معبر رسمي. ويخشى هؤلاء العارفون من أن يتسبّب هذان التياران بسقوطها بعد زوال "كورونا".
عند تأليف الحكومة، يضيف هؤلاء العارفون، تَوسَّم اللبنانيون خيراً في انها ستغيّر مسار الاوضاع الى الافضل، او على الاقل ستضع الازمة المالية والاقتصادية على سكة الحل بموجب خطة إصلاحية تستعيد من خلالها ثقة الخارج الواعد بالمساعدة والدعم عبر مجموعة الدول المانحة أو مجموعة "سيدر" وغيرها التي تشترط إجراء هذه الاصلاحات للاقدام على الدعم، لكن ما ان انطلقت هذه الحكومة الى العمل حتى بدأت العراقيل تظهر في وجهها من كل حدب وصوب الى أن جاءت أزمة "كورونا" فازدادت الاوضاع تعقيداً...
كلّ ذلك لم يدفع جمعية مصارف لبنان الى التوقّف عن جبروتها وإذلالها للبنانيين، فهي قوطَبَت على موضوع تعليق دفع استحقاق سندات اليوروبوندز الذي كان مقرّراً في 9 آذار الجاري، في أن باعَت سنداتها من هذا "اليوروبوندز" الى مصارف وشركات أجنبية لتُجبر الدولة على دفع هذا الاستحقاق فتنال هي من "الشبّاك" ما أخرجته من الباب في عملية احتيال موصوفة، اعتقاداً منها أنّ الدولة قد لا تدفع لها مستحقاتها من هذا "اليوروبوندز" فتؤجّلها وتدفع فقط لأصحاب السندات الاجانب، ولكن كانت المفاجأة انّ الحكومة قرّرت تعليق هذا الدفع والتفاوض مع الدائنين على تأجيل التسديد الى آجال أخرى ريثما تكون قد رَسمَلت نفسها وأصبحت قادرة على التسديد.
ورغم هذا التعليق، يقول سياسيون وخبراء في الشأن المصرفي، إنّ جمعية المصارف لم تغيّر مواقفها حتى الآن رغم كل المناشدات التي توجّه اليها للمساهمة في رفع الضَيم عن اللبنانيين نتيجة الازمة المالية والاقتصادية ونتيجة كورونا، وهي التي نالت من الدولة على مدى 30 عاماً وحتى الآن نحو 50 مليار دولار فوائد على ديونها لها، حسب تأكيد أهل الاختصاص. وآخر تحدياتها للحكومة كان تحدّيها القرار الحكومي بإعلان التعبئة العامة، بإصرارها على الاقفال حتى نهاية الشهر الجاري فيما هذا القرار استثناها من الاقفال وطلب منها الاستمرار في العمل لتسيير شؤون المواطنين، مودعين وموظفين، ورغم اجتماعها بوزير المال غازي وزنة والتزامها أمامه بأنها ستفتح فروعاً محددة وليس كل فروعها في مختلف المناطق، وإذ بها في اليوم التالي تَتملّص من التزامها هذا وتُقصر الفتح على مراكزها الرئيسية وتسيير شؤون الشركات فقط، وتحيل المودعين والموظفين الى أجهزة الصرّاف الآلي، وتُجبر كل من لديه راتب او وديعة بالدولار الاميركي على السحب بالليرة اللبنانية بسعر 1500 ليرة للدولار فيما سعره خارج التسعيرة الرسمية يبلغ نحو 2600 ليرة، لتستمر هي في التهام ما تَيسّر لدى زبائنها من دولارات بطريقة مريبة وملتبسة.
كل هذا تفعله المصارف وجمعيتها فيما مصرف لبنان يبدو وكأنه "غريب عن أورشليم"، ولا يكترث لعدم احترام المصارف لتعاميمه وقراراته التي لا تنفذ منها "إلّا من الجمل أذنه"، ولم يسألها يوماً لماذا تقسّط للموظفين في القطاعين العام والخاص معاشاتهم الموطّنة لديها وهؤلاء ليسوا بمودعين لديها؟ ما جعلهم عاجزين عن الايفاء بالتزاماتهم المالية الشهرية أمام عائلاتهم وغيرها في حياتهم.
والغريب العجيب، في رأي قطب نيابي، انّ السياسات المالية والإقتصادية اللبنانية، عزّزت تاريخياً من مكانة القطاع المصرفي، من السرّية المصرفية، إلى صلابة السيطرة على الاستثمارات بُعَيد انتهاء الحرب، لكنّ هذا القطاع لم يتهاون في استغلال الجانب الاقتصادي لتحقيق غايات سياسية. وإذا بالسلاح الاقتصادي الذي يتغنّى به لبنان منذ ستينات القرن الماضي يغدو في نجاحه المالي أقوى سلطاناً من الدولة وقرارتها.
على أنّ الهندسات المالية التي أجراها مصرف لبنان بغية إيجاد حلّ مؤقّت لمشكلة عجز ميزان المدفوعات عبر اجتذاب رساميل من الخارج أضافت المليارات من الدولارات إلى أرباح المصارف والمودعين الكبار، وكان سبب انفجار موازنته في السنوات الأخيرة ودائع للمصارف لديه بفوائد مرتفعة، علماً انّ الاحتياطي الفائض للمصارف لدى مصرف لبنان يبلغ أكثر من 200 % من الناتج المحلّي بمعدّل فائدة أعلى بكثير من 2,2 % وتحصل المصارف بموجبه على نحو 8 مليارات من الدولارات، ومع ذلك ورغم كل هذه "العطاءات" التي تحصل عليها المصارف كان بعض المصرفيين يقول قبل الأزمة: "إنّ الدولة باتت "شَحّاداً" على أبواب المصارف"... والواقع انّ الدولة ليست "الشحّاد الوحيد، بل غالبية اللبنانيين باتوا اليوم "شحّادين" لأموالهم أمام "كونتوارات" المصارف.