ما اصطلح على تسميته «الإحباط المسيحي»، والذي دفع بابا روما إلى التحرّك والاستنفار حرصاً على آخر بقعة مسيحية وازنة في الشرق، يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
- السبب الأول، إنتهاء الحرب اللبنانية على قاعدة غالب ومغلوب، منتصر ومهزوم، وذلك في ظل شعور مسيحي عام انّ الترجمة العملية المشوّهة لـ«اتفاق الطائف» جاءت على حسابهم، فلم تكن عادلة ولا مُنصفة وأدّت إلى تغليب كفة الفريق المتحالف مع النظام السوري، والأهم من كل ذلك حالت دون المصالحة الحقيقية وطَي صفحة الحرب وقيام الدولة السيّدة على أرضها والمُمسكة بقرارها.
- السبب الثاني، إستبعاد قيادات مسيحية سياسية إمّا بالنفي وإمّا بالاعتقال وضرب كل وجهة النظر الوطنية المسيحية التي عادَت النظام السوري دفاعاً عن السيادة اللبنانية، الأمر الذي أدى إلى نشوء خلل مزدوج، ميثاقي الطابع وعلى مستوى التوازن الوطني، والأهم انّ الاستقرار المجتمعي لا يمكن ان يستقيم من خلال التشفّي والانتقام والتغييب والإلغاء والاستهداف المنظّم لفئة من اللبنانيين.
- السبب الثالث، الابتعاد المسيحي الطوعي عن الدولة بسبب الشعور العارم بأنها ضدهم، الأمر الذي أدى إلى نشوء خلل داخل مؤسسات الدولة، وخَلق هوة واسعة بين البيئة المسيحية والدولة، فازدادت الهجرة نتيجة تَولُّد شعور بأنّ لبنان لم يعد تلك المساحة التي يجد فيها المواطن المسيحي الضمان لبناء مستقبله.
فالإحباط المسيحي لم يولَد من عدم، بل كان نتيجة وقائع ومعطيات وأسباب وحيثيات، والخروج منه كان مسؤولية مسيحية بالدرجة الأولى على قاعدة «ما بيحِك جلدَك إلّا ظفرك»، ولولا الدينامية المسيحية الكنسية، من روما إلى بكركي، ومن ثم الحزبية والفردية والمجتمعية التي تبلورت في وحدة موقف ومشروع سياسي تحت سقف بكركي في سياق ما عُرف بلقاء «قرنة شهوان»، لَما توافَرت الأرضية للالتقاء والتقاطع مع «الحزب التقدمي الإشتراكي» وتيار «المستقبل» و«اليسار الديموقراطي» وغيره من الأطر والتشكيلات، ولا التقاطع أيضاً مع الظروف الخارجية الدولية، وتحديداً الأميركية والفرنسية. وبالتالي، العبرة من كل ذلك انّ من أخرج المسيحيين من إحباطهم يتمثّل بنشوء إرادة وطنية مسيحية ترجمت في مشروع سياسي وطني أدى إلى إخراج الجيش السوري من لبنان وهو المسبِّب الأساس لإحباطهم الذي لم تنته مفاعيله فصولاً سوى مع انتخابات العام 2018 التي أعادت التوازن الميثاقي.
وقد انتقل الإحباط بعد العام 2005 من إحباط مسيحي إلى إحباط وطني مختلف عن الأول طبعاً، ومن أسبابه عدم قيام الدولة، وهذا الذي أدى إلى انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 والانهيار الذي تعيشه البلاد، لأنه لا يوجد دولة في العالم يمكنها ان تتعايَش طويلاً مع دويلة أخرى، وإذا لم تحصل المواجهة بالحرب والفصل، فإنّ الدولة لا بد من ان تنهار عاجلاً او آجلاً مالياً واقتصادياً، وهذا ما يحصل اليوم في اعتبار انّ عِلّة وجود الدولة تتناقض جذرياً مع علّة وجود الدويلة.
وفي الارتكاز على ما تقدّم هل يمكن الكلام عن إحباط سني؟ هل هناك من استهداف مبرمج لزعامات السنّة وقياداتهم بالنفي والإبعاد؟ هل قامت تسوية سياسية على حسابهم وأدّت إلى استبعادهم وتهميشهم؟ هل من شعور لديهم بالغربة عن الدولة، وأين، وكيف؟ وهل القوانين الانتخابية فصِّلت استهدافاً لتمثيلهم؟
الإجابة هي بالنفي طبعاً، فالإحباط السني، إن وجد، لا يشبه الإحباط المسيحي، وهو نتاج أسباب ذاتية أكثر منها عامّة، فلا إرادة لاستبعاد هذا المكوّن وعزله واستهدافه كما كان الحال مع المكوّن المسيحي، وأي استهداف حصل يكون قد شمل 14 آذار مجتمعة، ومعاناة البيئة السنية لا تختلف عن معاناة كل البيئات الأخرى بفِعل غياب الدولة أو تغييبها، وتيار «المستقبل» الذي يعدّ الأكثر تمثيلاً داخل البيئة السنية كان شريكاً أساسياً في التسوية الرئاسية وهو أوّل من اندفَع في هذا الاتجاه تجنّباً للفراغ وخوفاً من سقوط «إتفاق الطائف» كما يردّد، والانتخابات الأخيرة أظهرت أنّ «المستقبل» ما زال الأقوى بامتياز، والنواب السنّة الذين انتخبوا من خارج «التيار الأزرق» يمثّلون بمعظمهم بيئاتهم المناطقية، ولا يوجد من يسمّي هؤلاء ولا من ينتزع صلاحياتهم بالقوة ولا من يعيِّن في جسم الدولة خارج إرادتهم ولا من يَسلب قرارهم ولا من يَسلب صلاحياتهم الحكومية.
ولا شك في انّ هناك نوعاً من تَململ سنّي بفِعل شعورهم بالاستهداف في سوريا وغيرها، وينسحب هذا التململ على الواقع اللبناني بفِعل من يعتبر داخل البيئة السنية انّ هناك من قدّم تنازلات سياسية ولا يواجه الأمر الواقع القائم، ولكن ما تقدّم يبقى وجهة نظر ما لم يتجسّد الاعتراض السنّي في إطار تنظيمي على غرار لقاء «قرنة شهوان» بغية تشكيل لقاء سنّي الطابع وبخطاب وطني، ويضمّ شخصيات مدنية وروحية ويحمل مشروعاً سياسياً مكتمل الأوصاف. وبالتالي، في حال لم يترجم هذا الاعتراض بصيغة لقاء ومشروع فسيعني أنه مجرد تعبير فردي وربما شعبي، لكنّ مفاعيله ستبقى ضمن حدود تسجيل النقاط داخل البيئة السنّية، ولن يرتقي إلى مشروع وطني يستدعي التلاقي مع قوى من طوائف أخرى.
وفي المقارنة مع الأسباب التي أدّت إلى الإحباط المسيحي لا يمكن الكلام عن إحباط سنّي، والإحباط الموجود اليوم هو إحباط وطني تُرجم مع انتفاضة 17 تشرين بسبب تعذُّر قيام الدولة وإيصال الأكثرية الحاكمة والمُمسكة بمفاصل القرار لبنان إلى الانهيار، ولن تكون للبنان من قيامة إلّا في حال كَفّ يد منظومة 13 تشرين 1990 ومتمماتها وملحقاتها في 8 آذار 2005.