يرى بعض المراقبين، وبعض المنتفضين العراقيين أيضا، سواء بحسن نية أو بقصد غير بريء، أن اختيار مرشح لرئاسة الوزراء من خارج الكتل الشيعية الكبيرة التي احتكرت هذه الصلاحية منذ العام 2003، إنما هو إعلانٌ للحرب الحقيقية الأميركية المرتقبة ضد إيران في العراق، بدايتُها اختيار الرئيس برهم صالح، ذي العلاقة الجيدة بالأميركان، لمرشّح ذي علاقة جيدة بالأميركان، (عدنان الزرفي)، ومن كتلة يتزعمها سياسي آخر (حيدر العبادي) ذو علاقة جيدة بالأميركان أيضا، وذلك لإرباك المعسكر الشيعي الموالي لإيران.
وأكثر من ذلك يؤكد بعضهم أنها نقطة تحول جذرية تبدأ بكسر هيبة الأحزاب الكبرى، ثم سحب سلاح ميليشياتها، وتنتهي بطرد إيران، وإعادة العراق دولةً طبيعية مدنية لا عسكرية ولا دينية، ليبدأ فيها العدل وحكم القانون، ثم لتنطلق مسيرة البناء والإعمار. هكذا وبهذه البساطة.
ولكن الواقع المرئيّ والملموس يقول بغير ذلك. فلا الرئيس برهم ولا الزرفي ولا العبادي كانوا، ولا صاروا، ولن يصيروا مناضلين ضد الاحتلال الإيراني، وفدائيين حاملين العصا الأميركية لقتال رفاقهم الآخرين المستظلين معهم بخيمة الولي الفقيه.
وينبغي هنا التذكير بأن مجيء برهم صالح رئيساً للجمهورية، وحيدر العبادي خلفا لنوري المالكي رئيسا للوزراء، وعدنان الزرفي متنقلا من موقع وظيفي حساس وخطير إلى آخر أكثر حساسية وخطورة، كان بموافقة قاسم سليماني، شخصيا، إن لم نقل بترشيحٍ منه، وحدَه، وليس سواه.
وزيادةً في الإيضاح نُحيلكم إلى حديث صحافي نُشر الجمعة على موقع “بغداد اليوم” أدلى به النائب فالح الزيادي ممثل ائتلاف النصر، (وهو ائتلاف حيدر العبادي وعدنان الزرفي)، هاجم فيه القوى السياسية العراقية المعترضة على الترشيح، وقال “إن ما يثير استغرابنا أنه (الزرفي) طُرح لأكثر من 72 ساعة قبل تكليفه من رئيس الجمهورية برهم صالح، ولم يتمَّ الاعتراض عليه”.
وينسى البعض أن ثلاثي برهم صالح وحيدر العبادي وعدنان الزرفي يتبنّى اجتهادا سياسيا متقاربا، يقوم على ضرورة عدم قطع شعرة معاوية مع أميركا، وتليين مواقف الدول العربية المجاورة، وخاصة السعودية والإمارات، وتخفيف القبضة الإيرانية عن بعض مفاصل الدولة العراقية، على الأقل فيما يخص العلاقات الخارجية، وتقليم أظافر بعض الميليشيات المتشددة التي يسميها مقتدى الصدر “الميليشيات الوقحة”، ومنح الشعب العراقي متنفسا قليلا كفيلا بتخفيف نقمته المتصاعدة، وذلك لخدمة الحليف الإيراني، وتلطيف احتلاله، وليس لإزعاجه والتآمر عليه مع عدوتِه أميركا، وبالتالي إنهائه واجتثاث وكلائه أجمعين.
وتذكّروا أن أول زيارة لحيدر العبادي، فور منحه ثقة البرلمان، كانت لطهران، ليتلقّى البركات والنصائح والتوجيهات من المرشد الأعلى الذي قال له “سرْ كما سار سلفُك، ولا تغضبْني وتُغضبْ الله ورسوله وأهل بيته المعصومين”.
وقد كان، منذ أن بدأت رئاسته للوزراء وحتى نهايتها، تلميذا نجيبا لم يخيّبْ ظن وليّه الفقيه. فقد سار كما سار سلفه رئيسُ حزبه، حزبِ الدعوة، نوري المالكي، بالتمام والكمال.
وحتى حين حاول تبييضَ وجهه قليلا أمام العراقيين، مُلمّحاً إلى نيته حصرَ السلاح بيد الدولة، ردَّ عليه أبومهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، بتصريحاتٍ باللغة الفارسية من مدينة مشهد الإيرانية، معلنا “رفض سلطة حكومة حزب الدعوة على الحشد الشعبي”.
وهدّده المهندس، بصورة غير مباشرة، رداً على سؤال حول ما يقال عن إمكانية حلّ الحشد بعد انتهاء معارك الموصل، قائلا “إن هذا لا يمكن أن يحصل حتى ولو وقَّع رئيسُ الحكومة أمراً بذلك”. ولم يجرؤ العبادي، بعد ذلك، على أن يُزعج خاطر أبي مهدي المهندس ولا غيره من قادة الميليشيات.
شيء آخر مهم. لو كان عدنان الزرفي وبرهم صالح وحيدر العبادي معتمَدين لدى أميركا حلفاء وشركاء، ولو كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب جادا في تبنّي معركتهم مع المعسكر الإيراني في العراق، لكان الحزبُ الديمقراطي الكردستاني أولَ المنخرطين في المعركة، بحكم تحالفه التاريخي مع حكومات الولايات المتحدة، دون تردّد، ودون شروط.
بل العكس هو الذي حصل. فقد اعتذر مسعود البارزاني عن استقبال الزرفي، رافضا الخوض في أيّ نقاش أو حوار يخص تشكيل الحكومة دون موافقة القيادات الشيعية، مشددا على وجوب الحفاظ على العلاقة والشراكة مع المكوّن الشيعي وقياداته السياسية الفاعلة.
ثم لو كان برهم صالح قاصدا، فعلا، أن ينتزع العراق من الكابوس الإيراني لسارع إلى تطبيق المادة الـ81 من الدستور، مستغلا فشلَ الكتل الشيعية في اختيار مرشح جديد، ليحصر بيده جميع صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ولأَمَرَ بحلّ البرلمان، ولعجّلَ بإجراء انتخابات جديدة نزيهة تضمن اضمحلال هيمنة الأحزاب العراقية الإيرانية على البرلمان وبالتالي على الحكومة وعلى الوطن وأهله أجمعين. ولكنه لا يريد ذلك، ولا يفكر فيه أبدا، لأنه يعلم بأنه لن يستطيع أن يفعل ما ينتظره منه العراقيون.
فهو رجل هادئ ومسالم ومُحاور فقط، وليس مغامرا ولا مقامرا يأخذ الدنيا غلابا حتى لو مات على وقع سليل السيوف، وتحت دخان المدافع وقنابل الغاز السام.