هل كانت شبكة السياسة والمال قد تجرّأت على طرح مشروع «الكابيتال كونترول» الذي يتنصَّل من كل التطمينات ويغتال حقوق الناس لو كانت الإنتفاضة في الشارع؟
ألا يعني سكوت الطاقم السياسي والحزبي، سواء الداعم للحكومة أو المعارض لها، أنّ التواطؤ مستمر بين الجميع، وأنّ شعار «كلن يعني كلن» أصاب الهدف تماماً؟
يعترف بعض رموز الإنتفاضة بأنّها اليوم في حال ضياع. والسبب هو أنّها ليست موحَّدة على البرنامج ولا على الأهداف. لكنها «في الطريق» نحو الأهداف، تلتقي على أمور جوهرية... وأبرزها الشفافية وإنهاء الفساد.
ويعترف أحد «حكماء» الإنتفاضة، بأنّ الثغرة الأساسية هي عدم وجود قيادة موحَّدة لها، أو برنامج عمل واضحاً ومضبوطاً بالمِهَل والمواعيد.
ويقول: «الدينامية الهائلة التي تحرَّكت بها الانتفاضة في الأسابيع الأولى عوَّضت هذه الثغرة ووفّرت لها أن تثمر نتائج سياسية مهمَّة، أي سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري وإزاحة القوى السياسية عن الواجهة، ولو بالشكل».
فحكومة الرئيس حسّان دياب «الرمادية» قد تكون نصف الطريق إلى إزاحة الطبقة السياسية الفاسدة إذا أحسنت الانتفاضة فرضَ حضورها. ولكنها قد تكون «أخطر» من الحكومة الحريرية، إذا تمكنت من «تزحيط» الإنتفاضة وكرَّست الفساد القديم وشرَّعته.
وتالياً، يمكن أن تكون هذه الحكومة أداة للطبقة السياسية، تختبئ وراءها وتَحْكُم عبرها «بالواسطة»، ثم جسر عبور لعودتها المباشرة في أقرب فرصة.
لقد كان ممكناً أن تحقق الإنتفاضة مزيداً من الخطوات، ولو غابت القيادة الموحَّدة، لو استمرت في فرض إيقاعها القوي على الشارع. أما فقدان القيادة والبرنامج والشارع في آن معاً فهو أتاح للقوى السياسية أن تنتعش وتستكمل خطتها المخادِعة.
يقول بعض رموز الانتفاضة: «العالم كله منح حكومة دياب فرصة 100 يوم، والأجدى ألّا نعاكس هذه المهلة». لكن ما لا يحسبه هؤلاء، هو أنّ قوى السلطة والمال تستغل لتسجيل ما أُمكن من نقاط وتكريس الأمر الواقع السابق، بحيث يصعب على الإنتفاضة لاحقاً أن تقوم بعملية تغيير. وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى مشروع «الكابيتول كونترول» الذي يتمّ إمراره في هذه الأيام.
فهو يشكّل إحكاماً مطبقاً على ودائع الناس، بشكل مخالف للدستور وللمعاهدات الدولية الضامنة حقوق المودع. وفي المنطق الحقوقي، يمكن للمودعين اللبنانيين والأجانب أن يرفعوا دعاوى ضد الدولة اللبنانية بدعوى إحتجاز الأموال وإساءة الأمانة.
فهذا المشروع يضع قيوداً على العمليات المصرفية، ويقتطع أجزاء من الودائع لمصلحة ذوي المال والنفوذ. ويُراد من المودع الفقير والمتوسط أن يدفع، من تعبه وجنى عمره، ثمن سياسات مغامِرة لا علاقة له بها. وكل ذلك يتمّ فيما الانتفاضة غائبة تماماً.
يقال: إنّ فيروس «كورونا» هو العائق الأبرز لعودة الحراك الاعتراضي إلى الشارع. ولكن، يجدر التذكير بأنّ الانتفاضة فضّلت الاستراحة قبل وصول «الكورونا». وفي أي حال، من سخريات القدر أن يتحالف فيروس الفساد «البلدي» مع فيروس المرض الآتي من الخارج.
في العادة، تجّار السياسة والمال يتقنون التحالف مع العدو الخارجي، كما يعرفون الاستفادة من كل لحظة. وعلى الانتفاضة أن تُدرك ماكيافيلية عدوِّها، فلا تنخدع. وإذا كانت القوى الدولية تدعم الإصلاح في لبنان، وتعلن ذلك بوضوح، فستكون إضاعة الفرصة خسارة تاريخية.
ويجدر التفكير عميقاً في الكلام الذي أطلقه المسؤولون الفرنسيون والأميركيون في هذا الإطار، وآخرهم تأكيد السفيرة الأميركية الجديدة دوروثي شيا على دعم مطالب المتظاهرين منذ 17 تشرين الأول في تحقيق الإصلاح والشفافية.
في اعتقاد المتابعين، أنّ الانتفاضة عائدة حتماً. وسيكون غبياً مَن يعتقد أنّ الناس سيحتقنون بالقهر والجوع والمرض من دون أن ينفجروا… عاجلاً أو آجلاً. فلا شيء بقي للناس كي يخسروه.
ولكن، كل تأخير في العودة إلى الإنتفاضة سيجعل مهمَّتها أصعب وأغلى كلفة، بدءاً بالودائع التي يَسنّون الأسنان لافتراسها، ويسرِّعون الخطى لإنجاز المهمَّة… قبل انجلاء عتمة «الكورونا».