تتنوّع الخيارات المتاحة إذاً، وثمّة تجارب عديدة في العالم يمكن البناء عليها للحصول على تركيبة من إجراءات متنوّعة، يمكن أن تساهم في إعادة هيكلة القطاع المصرفي بشكل منصف وبعيدٍ عن إلقاء الكلفة على دافعي الضرائب أو صغار المودعين. لكنّ كل هذه الخيارات ينبغي أن تبدأ من قرار واضح على المستوى السياسي، يذهب بإتجاه تحديد نوعيّة الفئات التي ستدفع هذه الكلفة. وإذا قضى هذا القرار برمي العبء على أصحاب المصارف وكبار المودعين، بدل رميها على محدودي الدخل، فعلى أصحاب القرار أن يكونوا مستعدّين لمعركة أكبر مع الفئات التي لديها النفوذ المالي في البلاد. أما المشكلة الكبرى هنا، فهي تشابك مصالح هذه الفئة تحديداً مع مصالح صنّاع القرار السياسي، وهو ما يمكن أن يعيق الذهاب في هذا المسار منذ البداية.
فجأة، وبلحظة واحدة، بعد إعلان التخلّف عن دفع سندات الدين، تحوّلت نظرة الدولة إلى القطاع ليصبح عبئاً بحجمه وموجوداته، ولتصبح مسألة إعادة هيكلته مسألة وقت ليس إلا. ولم يخفِ رئيس الحكومة نفسه هذه التوجّه، حين تساءل عن جدوى وجود قطاع مصرفي يبلغ حجمه أربعة أضعاف الاقتصاد المحلّي، معلناً حاجة البلاد إلى إعادة هيكلة القطاع بأسره.
لم يكن حديث دياب عن إعادة الهيكلة مسألة تحوّل في أولويّات أو توجهات الدولة اللبنانيّة، كما حاول أن يوحي بعض الذين يريدون تسويق حكومة دياب وقراراتها من باب تغييرها لوجهة السياسات الرسميّة. فمسألة إعادة الهيكلة في القطاع لم تكن قراراً اتخذه دياب، بل كانت محتّمة ماليّاً، في اللحظة التي أعلن فيها لبنان تخلّفه عن سداد السندات، بمعزل عن ما تريده الحكومة فعليّاً. وبات السؤال الفعلي يتعلّق بشكل إعادة الهيكلة هذه، والفئات التي ستتحمّل كلفتها. فإعادة الهيكلة لن تكون مسألة إيجابيّة أو سلبيّة لعموم اللبنانيين بالمطلق. بل سيعتمد ذلك على شكلها، والخيارات التي سيتم الاتجاه إليها عند المضي في هذا المسار.
لماذا إعادة الهيكلة؟
التحوّل من تبجيل القطاع المصرفي إلى إعتباره عبئاً، كان حقيقة فرضتها الأحداث، وتحديداً بفعل تراكمات صنعتها طبيعة النموذج الاقتصادي الذي تشكّل في لبنان، في الفترة السابقة. فالمصارف يترتب عليها اليوم ودائع بجميع العملات تقارب قيمتها الـ163.76 مليار دولار، حسب أرقام مصرف لبنان، لغاية نهاية السنة الماضية. وفي المقابل، استثمرت المصارف ما يقارب الـ70 في المئة من موجوداتها في أدوات الدين السيادي، من سندات خزينة بالليرة وسندات يوروبوند بالعملات الأجنبيّة، وتوظيفات لدى المصرف المركزي بالعملتين.
جزء كبير من هذه الموجودات، المرتبطة بالدين السيادي، هبطت قيمته بعض إعلان الدولة توقّفها عن سداد سندات اليوروبوند، كحال بعض إصدارات اليوروبوند التي خسرت ما يقارب الـ70 في المئة من قيمتها عند الإصدار في الأسواق. وبينما ستنتظر المصارف مسار التفاوض مع الدولة اللبنانيّة، لإعادة جدولة سندات اليوروبوند، سيعني ذلك عدم قدرتها على تحصيل قيمة هذه السندات أو تسييلها في المدى المنظور. أما بالنسبة إلى شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان بالعملات الصعبة، فمن المتوقّع أن تواجه المصارف أيضاً مشكلة في تسييلها خلال الفترة المقبلة، مع الاستنزاف التدريجي لاحتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة، وتمسّك الدولة بالقيمة المتبقية منها.
وفي ما يخص التوظيفات بأدوات الدين السيادي، سيكون هناك مشكلة أكبر تتخطّى مسألة القدرة على تحصيل قيمتها عند الاستحقاق أو تسييلها عند الحاجة. فالمعايير المحاسبيّة الدوليّة الجديدة، تفرض على المصارف تكوين مؤونات مقابل القروض بحسب درجة مخاطر هذه القروض. وعلى هذه المؤونات أن ترتفع تدريجياً مع ارتفاع درجة المخاطر. ومع تخلّف الدولة عن سداد سنداتها، ومع التدهور المرتقب لتصنيفها إلى درجة التعثّر، سيكون على المصارف إعادة تصنيف كل الموجودات المرتبطة بالدين السيادي اللبناني وتكوين مؤونات مقابلها، وهو ما لن تملك المصارف القدرة على فعله بالنظر إلى تضخّم هذه الموجودات في ميزانيّاتها.
بمعنى آخر، لن تكون مسألة إعادة الهيكلة خياراً بالنسبة إلى المصارف أو للدولة. فمشكلة السيولة التي يعاني منها القطاع اليوم ترتبط بشكل وثيق بواقع توظيفاتها في الدين العام بمختلف أشكاله. ومن المتوقّع أن يؤدّي التطوّر الأخير المتمثّل بتعثّر الدولة إلى مفاقمة هذه المشكلة بأشكال عديدة. وعمليّاً، فكل ما كان يتم الافتخار به في السنوات الماضية من تنامٍ للودائع والموجودات المصرفيّة، لم يكن سوى تنامٍ لعبء القطاع على الاقتصاد، عبر اعتماد نموّه على نمو الدين العام. ولم يكن سوى تضخيم للقنبلة الموقوتة التي انفجرت خلال الأشهر الماضية، سواء على شكل مشاكل سيولة القطاع أو مشكلة تعثّر الدولة في سداد إلتزامتها.
وعلى أي حال، وبمعزل عن مشكلة الديون السياديّة، فثمّة مشكلة أخرى تنامت خلال الفترة الماضية، ستشكّل دافعاً إضافيّاً باتجاه عمليّة إعادة الهيكلة. فنسبة التعثّر في قروض القطاع الخاص بلغت مستوى 14 في المئة، ومن المتوقّع أن ترتفع بنسب أعلى في المرحلة المقبلة، مع تزايد عوارض التدهور في الاقتصاد اللبناني. وهذه المشكلة ستمثّل عامل ضاغط إضافي على سيولة المصارف، التي تستنزفها أساساً مشكلة ارتباط موجوداتها بالدين العام.
من سيدفع ثمن إعادة الهيكلة؟
كل هذه العوامل أدّت إلى إجماع على ضرورة إعادة هيكلة القطاع. لكنّ إعادة الهيكلة بطبيعتها يمكن أن تتم وفق أشكال عديدة، وسيناريوهات مختلفة، تشترك جميعها في وجود خسائر معيّنة. بينما تختلف هويّة الذين سيدفعون هذا الثمن وفق كل سيناريو. فالشكل الذي سيتمناه أصحاب المصارف سيكون بالتأكيد القيام بعمليّة إعادة رسملة للقطاع، أي ضخ كميّة من السيولة الجديدة في رساميل المصارف، والتي يمكن أن يؤمّن جزء منها مصرف لبنان بالليرة اللبنانيّة، بواسطة عمليّات وهندسات استثنائيّة شبيهة بتلك التي يجريها منذ سنوات عدّة، بهدف تحصين ميزانيات المصارف، بينما يمكن أن يتم تأمين الجزء الآخر من هذه السيولة بواسطة مساهمين جدد، وبشروط وبضمانات مشجّعة.
وخلال الفترة الماضية، جرى تداول مصطلح "إعادة الرسملة" على نطاق واسع، للتسويق لهذا النمط من العمليات، قبل التداول في السيناريوهات المطروحة لإعادة الهيكلة. لكنّ مشكلة هذه النوع من الحلول تكمن أوّلاً في إلقائها جزءاً من كلفة التصحيح في القطاع على ميزانية مصرف لبنان – أي المال العام- في حال تدخّل المصرف المركزي في هذا النوع من العمليّات. وحتّى لو كانت السيولة المطلوبة هنا بالليرة، فسيعني ضخّها التسبب بالمزيد من التضخّم والضغط على سعر الصرف، وهو ما يعني تكبيد الاقتصاد اللبناني بأسره كلفة هذه العمليات. وهذه الكلفة، لن تكون سوى الثمن المطلوب لإنقاذ المصارف من أزمة تسبب بها نموذج اقتصادي لطالما درّ على أصحابها الأرباح طوال سنوات.
وإذا كان هذا الخيار سيعني إنقاذ المصارف من دون تكبّد أصحابها أي كلفة في عمليّة التصحيح، فالمشكلة الأكبر هي عدم وجود ضمانات تؤكّد أن المصارف لن تجد نفسها مستقبلاً في وضعيّة مماثلة مرّة أخرى، تتطلّب المزيد من السيولة لإنقاذها مجدداً. فديون القطاع العام المتعثّر، ولو تمّت إعادة جدولتها، ستبقى الثغرة الكبرى في الموجودات المصرفيّة إذا لم يُعالج حجمها. وستبقى مصدراً أساسياً لمشاكل السيولة في المصارف اللبنانيّة. وعمليّاً، أي إعادة هيكلة للقطاع المصرفي وللدين العام لن تشكّل حلّاً جذرياً ما لم يتم التعاطي بشكل حاسم مع هذه الفجوة في الميزانيّات.
خيارات أكثر جديّة
في المقابل، ثمّة خيارات أكثر جديّة يتم الحديث عنها، يمكن أن تؤسس على المدى الأطول لمعالجة جذريّة ونهائيّة لأزمتين في الوقت نفسه. أزمة هيكليّة القطاع المصرفي وسيولته، وأزمة الدين العام وتعثّر الدولة. وهذه الخيارات يمكن أن تبدأ بالدخول في عمليّة تحجيم لقيمة أدوات الدين السيادي التي تملكها المصارف، بعد عمليّة تفاوض وإعادة تقييم لها. وهنا، لن تكفي عمليّة إعادة هيكلة الدين القائمة على تأجيل دفعات الدين، بل تقتضي عمليّة إقتصاص من حجم هذا الدين بالدرجة الأولى، للتأكد من تخلّص الدولة والنظام المصرفي من هذا العبء المكلف على ميزانيّات الطرفين.
وبعد الإقتصاص من حجم الدين، من ناحية موجودات أو أصول الميزانيّات، يمكن هنا تحميل جزء من هذه الكلفة لرساميل المصارف عبر إعادة تقييمها من ناحية الأخرى من الميزانيّة. كما يمكن تحميل الجزء الآخر من الكلفة لبعض الودائع، بعمليّة إقتصاص تصاعديّة ومنظّمة. وهنا، إذا تبيّن أن رساميل بعض المصارف لم تعد كافية، يمكن التفكير في خيارات مختلفة، مثل تخيير أصحاب المصارف بين زيادة الرساميل أو الدخول في عمليّات دمج.
يمكن لهذا السيناريو أن يوزّع خسائر إعادة الهيكلة بشكل منصف، بين كبار المودعين وأصحاب الرساميل، الذين استفادوا لسنوات طويلة من أرباح وفوائد المنظومة الماليّة القائمة. لكنّ وبموازاة ذلك، ثمّة خيارات أخرى يمكن أن تؤسس أيضاً لحلول جذريّة، مثل العمل على تحويل بعض ودائع كبار المودعين لأسهم في المصارف، لتحميلهم كلفة إعادة الرسملة، بالتوازي مع عمليّة التفاوض على الدين العام وإعادة تقييم حجم الرساميل التي يملكها أصحاب المصارف.
تتنوّع الخيارات المتاحة إذاً، وثمّة تجارب عديدة في العالم يمكن البناء عليها للحصول على تركيبة من إجراءات متنوّعة، يمكن أن تساهم في إعادة هيكلة القطاع المصرفي بشكل منصف وبعيدٍ عن إلقاء الكلفة على دافعي الضرائب أو صغار المودعين. لكنّ كل هذه الخيارات ينبغي أن تبدأ من قرار واضح على المستوى السياسي، يذهب بإتجاه تحديد نوعيّة الفئات التي ستدفع هذه الكلفة. وإذا قضى هذا القرار برمي العبء على أصحاب المصارف وكبار المودعين، بدل رميها على محدودي الدخل، فعلى أصحاب القرار أن يكونوا مستعدّين لمعركة أكبر مع الفئات التي لديها النفوذ المالي في البلاد. أما المشكلة الكبرى هنا، فهي تشابك مصالح هذه الفئة تحديداً مع مصالح صنّاع القرار السياسي، وهو ما يمكن أن يعيق الذهاب في هذا المسار منذ البداية.