خَرق الحكم الذي أصدرته المحكمة العسكرية قبل يومين، والقاضي بإسقاط دعوى الحق العام في حق آمر سجن الخيام سابقاً عامر الفاخوري، الاهتمامات المحلية المتشعّبة وتقدّمَ لساعات على ما عداه من الملفات.
فملف الفاخوري الموقوف في بيروت منذ 6 ايلول الماضي، بتهمة التعامل مع اسرائيل وإدارة سجن الخيام، قفز الى الواجهة في لحظة سياسية دقيقة وتزامَن بعد أسبوع على تَسلّم السفيرة الأميركية الجديدة في بيروت دوروثي شيا مهماتها الديبلوماسيّة عقب دخول البلاد في "التعبئة العامة" المفروضة في يومها الثاني. وفي معزل عن الغموض الذي يلفّ موضوع الإتصالات والضغوط الأميركية التي مورست لإقفال هذا الملف، فقد انتهت المحكمة العسكرية التي كانت تنظر في ملف الدعوى الى إسقاط دعوى الحق العام بحقّه لمرور الزمن العشري للحكم الصادر في حقه عام 1996، والذي قضى بالسجن مدة 15 عاماً مع الأشغال الشاقة لاتّهامه بالعمالة لإسرائيل، وهو لم يعد الى لبنان إلّا بعد التثّبت من سقوط المهل القانونية في حقه.
وبمعزل عن هذه الوقائع، وبعد أقل من 24 ساعة على صدور قرار المحكمة العسكرية الدائمة، مَيّز مفوض الحكومة لدى محكمة التمييز العسكرية القاضي غسان الخوري الحكم بناء لطلب المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات. وطلبَ من محكمة التمييز العسكرية نقض الحكم وإصدار مذكرة توقيف في حق الفاخوري وإعادة محاكمته مجدداً بالجرائم المنسوبة إليه، وهي تتمحور بينَ الخطف والتعذيب وحجز حرية مواطنين لبنانيين داخل معتقل الخيام وقتل ومحاولة قتل آخرين.
وبعد ساعات قليلة على المبادرة، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في النبطية احمد مزهر قراراً بمنع الفاخوري من السفر خارج الأراضي اللبنانية جواً وبحراً وبراً لمدة شهرين من تاريخ صدور القرار، طالباً عبر النيابة العامة في الجنوب الإبلاغ الى دوائر الأمن العام اللبناني نسخة عن القرار لتعميمه والعمل بمقتضاه وإبلاغ نسخة عنه الى قاضي التحقيق الأول في بيروت حيث الدعوى مُحالة إليه لأسباب أمنية، بواسطة النيابة العامة المختصة.
وعلى رغم من هاتين الخطوتين القضائيتين كان حكم المحكمة العسكرية قد وضع قيد التنفيذ، ونقل الفاخوري من المستشفى حيث يخضع للعلاج الى إحدى منشآت السفارة الأميركية في لبنان قبل مغادرته الأراضي اللبنانية أمس الى احدى المستشفيات الأوروبية للمعالجة. وهو ما طرحَ السؤال عن جدوى ومصير القرارات القضائية التي ضَجّت بها الأوساط السياسية والاعلامية استهجاناً واستغراباً. وتزامَنت الضجة مع قول مرجع قضائي بارز انّ قرار القاضي الخوري بالتمييز لا يعطّل تنفيذ القرار الصادر عن المحكمة الدائمة، وانّ قرار القاضي مزهر لا قيمة قانونية له لصدوره عن جهة لا صلاحية لها بملف الدعوى.
وتفسيراً لهاتين الملاحظتين الأساسيتين، فقد توقّف مرجع قضائي أولاً عند مصير قرار التمييز للقاضي الخوري، فرأى انّ من الواجب النظر إليه من زاوية العلاقة بـ الانتظام العام". فإسقاط دعوى الحق العام يسقط الإجراءات الأخرى وتصبح باطلة امام القضاء، وهو امر يطرح سؤالاً آخر. فعندما أصدرت قاضي التحقيق العسكري نجاة ابو شقرا قراراً ظنياً بالفاخوري، ردّته الى مواد يمكن أن تصل الى الاعدام، ألم تلحظ انّ الدعوى المرفوعة ضده قد سقطت بمرور الزمن العشري الذي ثبّتته المحكمة العسكرية؟ وبالتالي فهل من خطأ جسيم ارتكب في معرض تجاوز مبدأ يتعلق بالانتظام العام؟ ومَن ارتكبه؟ ألم يطاول القرار الظني مسألة الانتظام العام هذه؟ وبالتالي إن لم تكن ابو شقرا على صواب ألا يفترض ان يتحرّك القضاء المدني مَسلكياً؟ وان كانت على حق ألا يُحتِّم ذلك استقالة قضاة المحكمة العسكرية؟
وتوقّف مرجع قانوني آخر مليّاً عند قرار قاضي الامور المستعجلة في النبطية احمد مزهر، فلفت الى انّ القرار الصادر عنه مُبهم، ويقتضي البحث في ما إذا كان ذا صلاحية أصلاً للبَت في مسألة من اختصاص القضاء العسكري حيثُ لا مجال للمطالبة بتعويضات شخصيّة أمامها. والسبب يعود الى انّ صلاحية القاضي مزهر، استناداً الى الفقرة الأولى من المادة 579، أجازَت له "اتخاذ التدابير المستعجلة في المواد المدنية والتجارية من دون التعرّض لأصل الحق". هو أمر يؤكد انّ مثل هذه الصلاحيات لقاضي العجلة لا تسمح له التعاطي في القضايا الجزائية المختَصّ النظر بها محكمة استثنائية كالمحكمة العسكرية، وهو المكلّف النظر في قضايا اختلاس أموال وشيكات بلا رصيد، وهو أمر لا يتصل بمضمون الدعوى التي يُحاكم بموجبها الفاخوري.
وعَدا عن ذلك، أضاف المرجع: "انّ إسقاط المحكمة العسكرية الدائمة دعوى الحق العام في حق الفاخوري يُسقط كل الدعاوى اللاحقة بها. فالمحكمة العسكرية لا تنظر في التعويضات الشخصية، ومجرّد صدور القرار من المحكمة العسكرية بسقوط المهلة العشرية لم يعد من حق للمعترض سوى ان يتقدّم بإقامة دعوى مدنية امام القضاء المختص ومنها المحكمة المالية. وإن وجدت لديها الصلاحية في الشكل، يمكن عندها البحث في صلاحية قاضي الامور المستعجلة باتخاذ أي إجراء فيها ولكن وفقاً لظاهر الحال وثبوت الدين. فما هو حاصل قد تجاوَز حق قاضي الامور المستعجلة النظر في القضية لمجرد صدور قرار المحكمة العسكرية بإسقاط الحق العام، وهو أمر يعني انّ قرار القاضي مزهر خارج نطاق صلاحياته ولا يمكن ان يلتزم به الأمن العام او اي جهة يوكل إليها تنفيذه ما لم يُحِله المدعي العام التمييزي إليه.
والى هذه المعطيات، فقد اعتبر المرجع انّ قرار القاضي مزهر بمنع السفر عن الفاخوري لا مسوّغ له، في اعتبار انه لا توجد أي جهة سبق لها أن طلبت مثل هذه الخطوة قبل تحديد المحكمة المختصّة المالية التعويضات الشخصية في ضوء إسقاط دعوى الحق العام!
وعليه، ما هو مصير الدعوى العامة المُحالة أمام قاضي التحقيق الاول في بيروت في الموضوع نفسه والجرائم عينها والأشخاص أنفسهم، والتي بَتّت فيها المحكمة العسكرية سابقاً سلباً من حيث الشكل مع إسقاط دعوى الحق العام؟ وبالتالي هل يحق لقاضي التحقيق الاول في بيروت النظر في قضية أنهَت المحكمة العسكرية البَت فيها شكلاً ومضموناً؟
وبناء على كل ما تقدّم، ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل، يحق للمراقبين السياسيين أن يتطلّعوا الى كل ما يجري على المسار القضائي على انه من باب تَدارك ردّات الفِعل على القرار بإسقاط دعوى الحق العام في حق الفاخوري ولجم انعكاساته السلبية في السجون اللبنانية وحال التمرّد طلباً للعفو العام، ما جعلها "عاصفة قضائية" عابرة لا بد من أن تمرّ بأقل الخسائر الممكنة. وفي حال التوقف عند ما تركته القضية من جدل سياسي في ظل الغموض الذي يلف جوانب متعددة منها على أنها من باب "العصفورية السياسية" المفتوحة على شتى الاحتمالات...