منذ أن بدأ توافد الحالات الأولى المصابة بفيروس كورونا المستجد في مدينة ووهان الصينية، تصاعد جدل واسع بشأن ما إذا كان مختبر ما قد أنشأ الفيروس من خلال هندسته وراثيا، أم أنه جديد كليا ومن فعل الطبيعة.
واتهم البعض الصين بتصنيع وتطوير إحدى سلالات وباء متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (سارس)، الذي نشأ في الصين عام 2003، وتصديره للعالم، خاصة مع تراجع أعداد الإصابات والوفيات هناك، فيما اتهم صينيون الولايات المتحدة بتصنيع الفيروس التاجي الجديد.
لكن دراسة جديدة كليا نشرتها مجلة "نيتشر" العلمية، الثلاثاء، وشارك فيها باحثون من جامعات أدنبرة وكولومبيا وسيدني وتولين، لم تجد أي دليل على أن الفيروس تم صنعه في مختبر أو هندسته بأي شكل آخر، كما أشارت بعض الشائعات، وذلك بعد أن قام العلماء بتحليل بيانات تسلسل الجينوم العام لفيروس كورونا المستجد واسمه العلمي "سارس كوف2" (SARS-CoV-2) والفيروسات ذات الصلة.
وفيروس كورونا المستجد هو الأحدث في سلالة فيروسات كورونا، وهو السابع المعروف من سلالة كورونا الذي يصيب البشر، والثالث الذي يسبب أمراضا خطيرة.
أما الأنواع الأربعة التي تجلب أعراضا بسيطة هي KU1 وNL63 وOC43 و 229E.
الفيروسات الأخطر ضمن السلالة، والتي تسبب أمراضا حادة هي ثلاثة، ظهر الأول منها في الصين عام 2003، وهو وباء متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (سارس)، وفي عام 2012 انتشرت السلالة الثانية في المملكة العربية السعودية والتي سميت متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس)، وفي نهاية العام الماضي، بدأ انتشار السلالة الثالثة والحالية (كوفيد 19) والذي تم إلحاقه لاحقا بسلالة سارس، فسمّي علميا (سارس كوف 2).
وقال كريستيان أندرسن، الأستاذ المساعد في علم المناعة والأحياء الدقيقة وأحد مؤلفي الورقة البحثية، إنه "من خلال مقارنة بيانات تسلسل الجينوم المتاحة لسلالات الفيروس التاجي المعروفة، يمكننا أن نجزم بأن سارس كوف2 (كورونا المستجد) نشأ من خلال الطبيعة".
وحتى الثلاثاء تم توثيق ما يقرب من مئتي ألف إصابة و7900 وفاة حول العالم بفيروس كورونا المستجد. لكن الدراسة تشير إلى أن كثيرا من الوفيات لم يتم تشخيصها بالإصابة بالمرض، وبالتالي لم يتم تسجيلها في كثير من البلدان.
وتقول الدراسة إن العلماء الصينيين، وبعد وقت قصير من بدء انتشار الوباء، قاموا بتتبع تسلسل جينوم الفيروس وأتاحوا البيانات للباحثين في جميع أنحاء العالم.
وأظهرت بيانات تسلسل الجينوم أن السلطات الصينية اكتشفت الفيروس بسرعة، وأن تزايد ارتفاع وتيرة الإصابات به كان بسبب انتقاله من إنسان لآخر، وأن بدايته كانت بسبب شخص واحد حمل الفيروس فأصاب به آخرين.
واستخدم الباحثون المشاركون في الدراسة من جامعات ومعاهد بحثية مختلفة بيانات التسلسل هذه لاستكشاف أصل ومنشأ الفيروس من خلال التركيز على سيناريوهات عديدة.
دليل على التطور الطبيعي
وبناء على تحليل النموذج الجيني للبروتين الخاص بفيروس كورونا المستجد، استنتج الباحثون أنه جاء نتيجة للتطور الطبيعي وليس نتاج هندسة وراثية أو معملية.
وما أثبت صحة هذا الاستنتاج هو البيانات الخاصة بالهيكل الجزيئي للفيروس.
وأشارت الدراسة إلى أن فيروس كورونا المستجد يشبه في الغالب الفيروسات ذات الصلة الموجودة في الخفافيش وآكل النمل الحرشفي.
ويلفت رئيس قسم الأوبئة في "ويلكوم ترست" ومقرها المملكة المتحدة الدكتور جوزي غولدنغ، إلى إن النتائج التي توصل إليها أندرسون وزملاؤه "ذات أهمية حاسمة في تقديم وجهة نظر مبنية على الأدلة ضد الشائعات التي تم تداولها حول أصل فيروس "سارس كوف 2" المسبب لمرض كوفيد 19"، مضيفا أن الدراسة "تنهي أي تكهنات بشأن الهندسة الوراثية المتعمدة".
كيف نشأ الفيروس؟
بناء على تحليل التسلسل الجينومي لكورونا المستجد، خلصت الدراسة إلى أن أصل الفيروس الذي يتفشى حول العالم حاليا قد يكون واحدا من سيناريوهين محتملين..
السيناريو الأول
أن يكون الفيروس قد تطور إلى حالته المرضية الحالية من خلال الانتقاء الطبيعي لمضيف له غير بشري ثم انتقل إلى البشر، وذلك كما حدث مع تفشي الفيروسات التاجية المعروفة لهذه السلالة من قبل. ففيروس "سارس" انتقل للإنسان في الصين من خلال مضيف له هو حيوان الزباد، أما في حالة متلازمة الشرق الأوسط التنفسية "ميرس" والذي بدأ في السعودية، فكان مضيف الفيروس هو الجمل.
وفي حال فيروس "سارس كوف2" المعروف بكورونا المستجد، فيعتقد أن مضيفه هو الخفاش، نظرا لأنه يشبه فيروس كورونا الذي يصيب هذا الحيوان.
ولا توجد حالات موثقة تثبت انتقال الفيروس من الخفافيش إلى الإنسان، ولهذا يمكن أن يكون هناك مضيف وسيط أيضا بين الخفافيش والبشر.
السيناريو الثاني:
تشير الدراسة إلى إمكانية قفز نسخة غير مرضية من الفيروس من مضيف حيواني إلى البشر، ثم تطورها إلى حالتها المرضية الحالية بين السكان.
فعلى سبيل المثال، تحتوي بعض الفيروسات التاجية من حيوان "آكل النمل الحرشفي" او البنغولين، على بنية هيكلية شبيهة بفيروس كورونا المستجد.
وتقول الدراسة إن الفيروس ربما انتقل مباشرة من هذا الحيوان إلى الإنسان أو عبر وسيط استضاف الفيروس مثل حيواني الزباد أو النمس قبل أن يصل إلى الإنسان.
ووجد الباحثون أن موقع انقسام الفيروس الحالي مشابه لمواقع انقسام سلالات انفلونزا الطيور، التي ثبت أنها تنتقل بسهولة بين البشر، وربما طور "كورونا المستجد" موقعا للانقسام الفيروسي في الخلايا البشرية وسرعان ما بدأ الوباء الحالي.
وقال الباحث المشارك في الدراسة أندرو رامبو إن "من الصعب إن لم يكن من المستحيل معرفة أي من السيناريوهات على الأرجح حدث في هذه المرحلة".
وأضاف "إذا كان فيروس كورونا المستجد قد انتقل إلى البشر في شكله المرضي الحالي من مصدر حيواني، فإنه يثير احتمال تفشي المرض في المستقبل، حيث يمكن أن تنتقل سلالة الفيروس المسببة للمرض بين الحيوانات وقد تقفز مرة أخرى إلى البشر".
وتابع "أما الاحتمال الثاني وهو الأقل ترجيحا، أن يكون الفيروس التاجي قد دخل بشكل غير مَرَضِي من الحيوانات إلى البشر ثم تطورت خصائصه حتى أصبح بشكله الحالي".