من سوء الأقدار أن تعصف أزمة «كورونا» في هذه اللحظة من التحوُّل في لبنان. فهي ستساهم أولاً في زيادة الأعباء المالية والاقتصادية الملقاة على عاتق الدولة، وستؤدي إلى انشغال المسؤولين بالشأن الصحي وتأمين الحاجات الاستثنائية لمواجهة الوباء.
والأزمة الصحيّة ستفرض تحويل جزء من المساعدات التنموية التي تخصِّصها الجهات الدولية المانحة مساعدات إنسانية. كما أنّ دخول الاقتصاد العالمي في الركود، وسط تراجع أسواق المال والنفط وتباطؤ الاقتصادات، قد يخلق مناخاً عالمياً غير مؤاتٍ لتحريك أي مساعدة للبنان.
فالميل العالمي سيكون لتقديم المساعدات الإنسانية إلى الدول الأضعف، لا المساعدات المالية والتنموية. وهذا التحدّي ربما يستمرّ حتى عبور أزمة «الكورونا»، أي ضمن فترة قد تمتدُّ عاماً أو عامين.
لكن هذا لا ينفي وجود «إيجابيات» قليلة يراها الخبراء داخل هذه الأزمة المتشابكة. فتضافر الأزمتين الاقتصادية والصحية أدّى إلى تقشُّف المواطنين اضطرارياً وتراجعٍ كبير في الإنفاق. وفي ظلّ تراجع أسعار المشتقات النفطية التي تشكّل النزف الأكبر للعملات الصعبة وتثبيت أسعارها للمستهلك اللبناني، سيكون هناك وفرٌ بالدولار يخلق تحسناً في ميزان المدفوعات.
ولكن، كل ذلك يبدو نقطة صغيرة في بحر الأزمات الآتية من بوابة الديون التي تمنَّع لبنان عن دفعها، والتي ستقوده إلى أماكن صعبة. ففيما تستعدُّ الحكومة لبدء مفاوضاتها مع الدائنين، وسط تراجع في التصنيف السيادي إلى أدنى المراتب على الإطلاق، يجهّز كثير من هؤلاء قراراتهم لمقاضاة لبنان في نيويورك.
وفي تقدير الخبراء، أنّ المقاضاة باتت أمراً مفروغاً منه، لأنّ من غير الممكن أن تتمكّن الحكومة من إرضاء جميع الدائنين والتوافق معهم. ويعني التقاضي أنّ هناك مخاطر مؤكّدة على موجودات لبنان الخارجية، بما في ذلك ما يختزن من احتياطه من الذهب في نيويورك.
فهذه الموجودات قد تتعرَّض على الأقل للتجميد، بناءً على إشارات قضائية، إلى حين انتهاء الدعاوى والإفراج عنها، أي ربما لسنوات. وإذا حصل ذلك، سيتعرَّض لبنان لمأزق أكبر. وواقعياً، سيجد نفسه مستفرداً وضعيفاً في مواجهةٍ ذات أبعاد عالمية متشابكة.
وثمة مَن يعتقد أن لا خروج من هذا المأزق إلّا في السياسة، أي من خلال التفاهم مع قوى دولية مؤثِّرة تقف إلى جانبه وتمتلك «الكلمة السرّ» في الإفراج عن المساعدات الحيوية. ولكن أيضاً، لا مجال للخروج منه إلّا بالاستجابة لمقتضيات الإصلاح المطلوبة. فحتى الآن، لم تبادر الحكومة إلى أي خطوة إصلاحية فعلاً.
وفي الأسابيع الأخيرة، تلقّت الحكومة رسائل جديدة من دول أوروبية عدّة، وفرنسا خصوصاً، لحضِّها على التزام شروط الإصلاح لتتمكن من تحريك المساعدات العالقة منذ مؤتمر «سيدر». لكن أي تجاوب لم يصدر عن الحكومة الجديدة، لا في استعادة الأموال المنهوبة ولا حتى في فتح تحقيقات حول الهدر والفساد وتعطيل مؤسسات الرقابة والمحاسبة والقضاء.
وفي اعتقاد بعض المتابعين، أنّ بعض القوى السياسية التي تمتلك النفوذ في الحكومة الحالية، يريدها أن تكون صماماً واقياً لها ضدّ الصدمات. فعندما تنتهي مهمة هذه الحكومة بإدارة عملية السقوط، سيتمّ تحميل الشعب أكلاف الإفلاس. وبعد ذلك، يغسل السياسيون أيديهم من الجريمة ويعودون إلى السلطة بنحو فاقع، ومعهم أموال المساعدات الآتية ليتصرّفوا بها ويبدأوا الشوط الجديد.
ولذلك، يبدو واضحاً أنّ ملامح مشاريع «الكابيتال كونترول» التي يتمّ تحضيرها، والتي ظهرت تفاصيلها في الأيام الأخيرة، ستكون على حساب الشعب وودائعه. وكذلك، يُخشى أن تكون «الهيركات» التي يتردَّد أنّها حتمية، مع أنّ بدائل ناجعة عُرِضت على المسؤولين اللبنانيين، ومنها التجربة التي طبَّقتها فرنسا في مرحلة معينة من أزمتها المالية.
ويوضح خبير رفيع مقيم في فرنسا، أنّه طَرح تفاصيل الفكرة على مرجعيات لبنانية معنية لعلَّها توفّر مخرجاً، بدل الاقتطاع من ودائع الشعب في المصارف. وتقضي الفكرة بفرض «قرضٍ جبريّ» على الودائع لمصلحة الدولة اللبنانية، بفائدة ضئيلة، لمدة 4 سنوات أو 5 سنوات أو أكثر.
ويشمل هذا القرض كل الودائع من دون استثناء، ولكن بنحو تصاعدي وفقاً للشطور. فمثلاً، يمكن البدء باقتطاع مبلغ رمزي يقارب الـ2% للشطر حتى 10 آلاف دولار، وحتى 4% حتى 50 ألفاً، و6% حتى 100 ألف… و15% حتى المليون و20% فوق المليون.
فالدولة تحتاج اليوم إلى سيولة، وهذا القرض سيوفره لها. ولكنها ستعيد الحقّ إلى أصحابه بعد سنوات، إذ يُفتَرض أنّها ستكون قد تجاوزت الأزمة باتباعها برنامجاً إصلاحياً دقيقاً، وحصولها على مساعدات دولية، بناءً عليه. وسيكون لمردود الغاز والنفط المُفترض أن يُستخرج آنذاك دورٌ في المساعدة.
يقول الخبير: «هذا القرض الجَبْري سيجنّب الناس الاستيلاء على أموالهم، وستشارك فيه كل فئات المجتمع. كما أنّه يجنّب وضع لبنان في خانة البلدان التي تنتهك المعاهدات الدولية الكافلة للودائع والحامية للاستثمارات الأجنبية. علماً أنّ تطبيق «الهيركات» قد يدفع بعض المودعين الأجانب للجوء إلى مراجع تحكيمية أو قضائية، فتُصدِر أحكامها على الدولة اللبنانية وتفرض إعادة المبالغ المقتطعة».
ويشرح الخبير، أنّ هذه التجربة طبّقها الاقتصادي البارع ريمون بار عام 1977، عندما تولّى في الآن نفسه رئاسة الوزراء ووزارة المال في فرنسا، وقد ساهمت في إنقاذها من أزمتها المالية آنذاك.
حتى الآن، لا تُظهِر حكومة دياب أي ردّ فعل على مطالب الإصلاح. ولكنها تندفع اضطرارياً إلى خيارات لا ترغب فيها القوى السياسية التي تدعمها، وتحديداً «حزب الله». فقد تدرَّج موقف «الحزب» من الرفض المطلق للتعاطي مع صندوق النقد الدولي إلى القبول بالاستعانة به تقنياً فقط، إلى الاستعانة به مالياً ضمن شروط لبنان. وعلى الأرجح، سيضطر لاحقاً إلى القبول بأن تستجيب الخطة اللبنانية لعدد من الشروط التي سيمليها الصندوق. ففي النهاية، العلاقات الدولية مبنيّة على المصالح ويحكمها منطق الأقوى. فـ»الحزب» يحاول إنقاذ وضع الحكومة لئلا تسقط في وجه المجتمع الدولي ولئلا يقع شرخٌ سياسي عنيف في داخلها.
وسط هذا كله، يبدو مثيراً مشهد هذه الحكومة. فهي تبدو متحمسة جداً ومعنوياتها مرتفعة جداً لكنها تدور في مكانها…على أمل أن تتحرّك يوماً. من الظلم أن يُقال إنّها «الرجل المريض»، لكنها الرجل الذي يركض بكفاية عالية على جهاز المشي، السجادة الدوّارة، داخل المنزل!