قد يقال انّ هذا التوصيف بديهي، وليس فيه اختراع للبارود او للماء الساخنة، ولا ادّعاء لمعرفة. ولكنه، مع الأسف، لا يعبّر عن الحقيقة، ذلك انّ هذه المساواة بين هذين المواطنَين نظرية لا اكثر، لأنّ ثمة فارقاً جوهرياً بينهما، فالمواطن الآخر محظوظ يعاني هذا الوباء مرة واحدة، فيسلّم أمره الى دولة ترعاه وتسعى لشفائه وحمايته بحسب إمكانياتها. وأما المواطن اللبناني فـ«منحوس» وحظه عاثر حتى مع الوباء، فيعيشه 6 مرّات:
مرّة، إن أصابه الفيروس نفسه، وهذه تأخذه في رحلة شاقة صحيّة ونفسية.
ومرّة، في عجز دولته وتقصيرها او ارتباكها وتخبّطها، فيستفحل المرض قبل أن تبدأ بإجراءاتها.
ومرة، حينما يخضع المواطن اللبناني للابتزاز من تجار المطهِّرات، ومحاولة الاستثمار الوقحة على صحته، إن برفع أسعارها بصورة جنونية، أو بترويج مستحضرات غير مطابقة للمواصفات، علماً أنّ هذه المواصفات أقرب الى لغز صعب، وليست معلومة طبيعتها ولا معاييرها!
ومرّة، من فلتان «تجار المقابلات» ومُدَّعي المعرفة في كل شيء؛ في السياسة، والاقتصاد، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والصّرف، والنحو، والفلك، وعالم البحار والانهار، والاختصاص في الطب وفي عالم «كورونا» واخواته، وخذ على إرشادات ووصفات وتسويق «بالأجرة» لمبيدات ومطهّرات ومستحضرات، وتخويف للناس من تخيّلات وسيناريوهات، وروايات، وتخيّلات، وتحليلات وتوقعات شؤم لِما هو آت!
ومرّة، في الاشتباك السياسي المقيت، الذي يصبح فيه وَجع اللبنانيين أخفّ وطأة عليهم من ثرثرة سياسيين على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي، بعضهم من الوزن الثقيل، وبعضهم الآخر أقل من وزن الريشة السياسية، لم يسبقهم أحد على امتداد الكرة الارضية، في الاستثمار حتى على الجراثيم. للتأكيد عن قصد أو عن غير قصد، على انّ مبدأ مصلحة الدولة العليا وسيادة روح التضامن والوحدة الوطنية، ليس عملة صالحة لأن تُصرف في لبنان، وتحت أيّ ظرف، حتى ولو كان مصيريّاً كالذي يمرّ فيه في هذه الأيام!
ومرّة، حينما يشعر المواطن اللبناني وكأنّ دلواً من الماء المثلج يُصَبّ على رأسه في لحظة برد قارس، من بعض المقامات في السلطة، وحينما يراها تمرّر - تسلُّلاً، من محاذاة أو من خلف «الوباء الكوروني»- تأكيدها بأنها ما زالت تسكن مرحلة ما قبل 17 تشرين الاول 2019، ولم تغادرها بعد، وإصرارها على مقاربة أزمة اليوم بعقلية الأمس التي تسببت بالانهيار الاقتصادي والمالي وعمّقت الانقسام الداخلي، وعلى تجاوز انتفاضة الغاضبين في 17 تشرين، عبر تكرار «مآثر» ما قبلها، بالدخول الفاقع على خط تشكيلات انجزت، او تعيينات يجري تحضيرها، ومحاولة «تصحيحها» على النحو الذي يُبقيها في حلبة تقاسم الجبنة، وهو أمر ينعى كل الآمال التي عُلِّقت على تغيير او تصحيح، ويجعلها تتلاشى وتضيع هباء، وينذر بالترحّم على اي معالجات أو اصلاحات موعودة، ويمهّد بالتالي للانفجار الشعبي من جديد، ولو بعد حين؟!
هل من سبيل للوصول الى علاج؟
على المستوى الصحي، تعترف الجهات الصحية المعنية بأنها ليست قادرة على الاحتواء، وانّ «الفيروس» وسرعة انتشاره أقوى من الإمكانات المتواضعة المتوافرة لديها، إضافة الى الشحّ الكبير في المواد الوقائية، وهو ما فرض إعلان حال الطوارىء العامة، الرهان فيها بالدرجة الأولى على تعاون المواطن اللبناني معها، باتّباع أقصى درجات الحيطة والعزل والحماية الذاتية.
هذا ما يؤكد عليه مرجع سياسي، ويعتبر أنّ اعلان حال الطوارىء خطوة - مع أنها تأخرت - كان لا بد منها، في مواجهة هذا الوباء، ومهمة الدولة هنا ان تسعى لأن تجعل هذه المحنة الوبائية، فرصة لتجاوزها والتخلّص منها. وهذا يوجب عليها الّا تجمّد الامور عند اعلان حالة الطوارىء فقط، وانتظار ان ينجح العالم الخارجي في اختراع اللقاح، فهذا ما قد يحصل بعد شهر او بعد سنة. ومن هنا فإنّ على الحكومة أن تطرق كل الابواب طلباً للمساعدة في احتواء «كورونا»، وليس هناك ما يمنعها على الاطلاق من ان تلجأ سريعاً الى البنك الدولي، او الى صندوق النقد الدولي او الى أيّ مؤسسة مالية دولية وتطلب المساعدة، وبالتأكيد أنها ستلقى المساعدة، ومن دون الخشية من اي التزامات من قبل الدولة اللبنانية، سياسية كانت او غير سياسية.
وعلى خط متواز، يضيف المرجع نفسه، مبادرة الحكومة سريعاً، لا بل فوراً، الى اتخاذ الاجراءات الآيلة الى وقف ما تسمّى «سياسة مكبّرات الصوت» التي حوّلت الشاشات على اختلافها، الى مسرح للهراء الصحي والسياسي وزرع الانقسام الداخلي حول كورونا، تتبادله مجموعة من الجهلة وصيّادي الفرص المسكونين بعقدة الكراهية من هنا وهناك. فما قدّمه هؤلاء منذ اللحظة الاولى لهذا البلاء، لم يكن على الاطلاق شكلاً من أشكال الشعور ولو بالحد الادنى من المسؤولية حيال كيفية مقاربة هذا الخطر «الكوروني» وحجمه الكارثي. لا بل انّ ما قدموه ما كان الّا «كومة» من التنظيرات التي تجعلنا عرضة للسخرية، حتى من الوباء نفسه!
وفي الجانب الآخر للعلاج، وكما يرى المرجع نفسه، هناك ضرورتان:
الاولى، ضرورة ان تقدّم يد المساعدة الى رئيس الحكومة وتمكينه من القيام بالمهام المطلوبة منه، فيجب الاعتراف ان لا أحد يساعده، الأكيد انّ المعارضة ليست في وارد المساعدة أصلاً إنما المساعدة مطلوبة من الفريق السياسي الذي ألّف الحكومة.
الثانية، ضرورة وقف الجنوح السياسي المستمر، نحو تعميق الازمة بكل عناوينها السياسية والاقتصادية والمالية، عبر الابقاء على «ميزان السلطة» معلّقاً على ذهنيّات المرحلة السابقة، ومعطّلاً لأي خطوة إصلاحية.
يقول المرجع السياسي: في المجال الاصلاحي، ينبغي ان نذهب الى لبنان جديداً يختلف جذريّاً عن لبنان القديم، واذا كان المطلوب في فترة سابقة هو النأي بالنفس عن أزمات المنطقة، فإنّ المطلوب الآن وبإلحاح أكبر هو النأي بالنفس عن المرحلة السابقة وموبقاتها، وترك الامور تسير في الاتجاه الذي وُعد فيه اللبنانيون بعد انتفاضة 17 تشرين، وليس خداع اللبنانيين والتنصّل من الوعود والالتزامات، فأقلّ ما قد يتأتى عن ذلك هو انّ البلد سيفلت من أيدي الجميع.
والمثال على هذا المنحى، كما يشير المرجع المذكور، هو ما يحيط بعض التحضيرات لسلة تعيينات في بعض المواقع المهمة، من التباسات وتدخلات سياسية، اضافة الى مشروع التشكيلات القضائية، فمعلومات المرجع المذكور تؤكد وجود تدخل فاقع في عمل القضاء واستقلاليته. وانّ جهات رسمية رفيعة، وسياسية موالية لها، تمارس ضغطاً كبيراً حول مشروع التشكيلات لتعديلها. وهنا يقول المرجع: حسب معلوماتي انّ مجلس القضاء الأعلى أعدّ هذه التشكيلات بطريقة شفافة راعى فيها الكفاءة والدرجة، ومن دون تداخلات سياسية، فالضغط على القضاء لتعديل التشكيلات «لمصلحة بعض المحسوبين» يشكّل بالدرجة الاولى إساءة للقضاء واستقلاليته، ويعطّل مسبقاً أي منحى إصلاحي، ولكن اذا ما استمرّ هذا المنحى الضاغط، فبالتأكيد هذا لن يمنع أي مراجع سياسية اخرى من التدخّل لفرض ما يناسبها.
وينقل عن مسؤول كبير قوله في هذا السياق: «كل الناس تعرف، وفي مقدمهم مجلس القضاء الاعلى، بأنني لم أتدخل في هذه التشكيلات، علماً انني اعتبر نفسي متضرّراً منها، ومع ذلك آثَرت عدم التدخل، ولكن انا الآن انتظر ما سيؤول اليه الحال، فإن تأكد لي انّ هناك من هو مُمعن على التدخل والضغط لتحويل التشكيلات في الاتجاه الذي يريده، فإنني لن أتوانى أبداً عن التدخّل وطرح «طلباتي الكثيرة» التي لم يسمع بها أحد حتى الآن». فإن أردنا قضاء مستقلاً ونزيهاً، فلتخرج التشكيلات بطريقة سليمة وبلا تدخلات.