لا مجال للمقارنة بين ستيڤن هوكينغ وساسة لبنان، فهو يبني للأجيال القادمة ويفكِّر فيها من عمقِ مأساته، بينما هي، ومن فرط قوّتها، تُدمّر أكثر ممّا تبني، وربما تدمِّر ولا تبني. ولا تُفكِّر إلّا في منافعها ومصالحها. إذًا، يمكننا فقط المقارنة بين ثقوب هوكينغ وثقوب لبنان.
يُتحفنا هذا الغرب "الكافر" بنماذجَ رائعةٍ، لا يستطيع الإنسان إلّا أن يقف إجلالًا واحترامًا لها. منذ زمنٍ طويل، لم يعد لدينا نموذجٌ شبيهٌ بنموذج ستيڤن هوكينغ. وأكثر ما يطمح إليه أستاذ الجامعة المتفوّق في لبنان هو أن ينال رضى السِّياسيّ ليستطيع التثبُّت في الجامعة براتبٍ ثابت. ومن ثمَّ يَمُدُّ رجليْه، فقد ختَمَ العلم! وصار بإمكانه أن يرتاح وأن يموت أيضًا، وهو راضٍ عن نفسه!!.
هذا العبقريُّ المشلول لخمسة عقودٍ ونيِّفٍ، لم يقعد ليندبَ حظَّه ويستسلمَ لليأس، بل تابع أبحاثه وتحلّى بإرادةٍ نادرةٍ جدًّا. تزوّج (مَنْ عندنا من الجنس اللطيف الذي يتباهى بعظمته تقبل بأن تتزوّج عبقريًّا مشلولًا وتُنجِبَ منه ثلاثة أولاد؟) وواظب على عمله وتحلّى بحسّ الفكاهة والنّكتة.
هذا العبقريّ المشلول الذي لم ينل من الأرض شيئًا تحدّى الجميع. تحدّى نفسه أوّلًا، وتحدى النّاس ثانيًا، وهزىء بالطّب الذي لم يستطع أن يفعل له شيئًا ثالثًا، وتحدّى الله وعظمته رابعًا. وفي اعتقادي أنّه كان، رغم كلّ ما يُنقلُ عنه، من أكثر النّاس إيمانًا. فهو الملحد المؤمن الذي من شدّة إيمانه أصرّ على إلحاده الذي يرفض وجود الله الأكيد؛ لأنّه، في نظره، لم يفعل له شيئًا لينقذه من هذا الشّلل الذي حرَمَه كلَّ شيءٍ تقريبًا، ولم يبقِ له سوى عقله الباحث عن أسرار الكون والثقوب السّوداء.
ترَك الأرض التي لم تُعطِه شيئًا ومدَّ بصره نحو ما وراء الأرض، نحو السّماء، نحو الله. وعندما تيقّن من عظمته، رفض وجوده وأعلن نفسَه مُلْحدًا. واتجه صوب الثقوب السّوداء. وما أدراك ما الثقوب السّوداء؟ ما الذي حدا به للبحث في الثقوب السّوداء؟ هل لأنّ الحياةَ أظلمت في وجهه فأصرَّ أن يبحث فيها وفي ما ورائها ليبحث عن إمكان حياةٍ أخرى، فاذا به يكتشف أنّ الثقوب السّوداء متعددة الأحجام، وأنّها ليست سوداء تمامًا، وأنّها قد تُشعّ نورًا رغم ظلاميّتها القاتمة ورغم جاذبيّتها الهائلة التي لا تسمح لأيّ جرمٍ سماويٍّ أن ينفلتَ منها إلى درجةٍ أنَّه حتى الضوء تجذبه إلى داخلها، وأنّها ربما تؤدي الى أكوانٍ أخرى.
لكنّ ثقوب لبنان السّوداء، هي أيضًا متعددة الأشكال والأحجام والجهات، لكنّها لا تُشعُّ أيَّ نورٍ، وتجذب كلّ شيءٍ يمرُّ في فلكها فلا تترك لا حجرًا ولا بشرًا إلّا وجذبته وطحنته واستولت عليه. وهي بالمناسبة، لا تؤدّي إلى أكوانٍ أخرى، إلى حياةٍ أخرى، كما هي حال ثقوب هوكينغ السّوداء، بل تؤدّي اإلى العدم.
ثقوب لبنان إمّا هي وإمّا الطوفان!!.