تسعٌ وأربعون سنةً من المقاومة! تسعٌ وأربعون سنةً من مغالبة القدر والتغالب معه! لم أستطع أن أهزمه ولم يستطع أن يهزمني! ربما كان بإمكاني وإمكان كُثُرٍ غيري أن نهزمه لو لم نكن نعيش في زمن الأوغاد. فالعالم من حولنا يحكمه ويتحكَّم به الأوغاد! أيّ هامشٍ من الفعل يبقى لي، يبقى لأمثالي؟!!
ماذا يعني أن نعيش في زمن الأوغاد؟
يعني أنَّ علينا أن نتوقَّع مختلف أنواع الشرور. فالعقل يعجز عن توقّع ما يمكن أن يفعله الوغد. ما حصل في لبنان أكبر مثالٍ على ذلك! لقد تمَّت سرقة الدولة ونهبها! هذا متوقّع! لكن أن تتِمَّ سرقة أموال النّاس فهذا ما لم نكن نتوقّعه حتى في مخيِّلاتنا الشّيطانيّة!
تآمر الجميع على الشعب اللبناني: إمّا سارقًا وإمّا متواطئًا وإمّا مغطِّيًا وإمّا غاضًّا الطرف وإمّا متفرّجًا! لا أحد بإمكانه أن يتنصّل من المسؤوليّة. حتى الشعب نفسه ليس بريئًا من دم كارثة القرن الماليّة التي حلّت بلبنان. فلطالما تباهى هذا الشعب بحبِّه لزعمائه وبذل الغالي والنّفيس من أجلهم!
ثلاثة عقودٍ من النهب المنظّم للدولة! ثلاثة عقودٍ من الفشل في إدارة الشّأن العام. لن أبرِّئ أحدًا. حتى نفسي لن أبرِّئها مع أنّي الأقل مسؤوليّةً! فأنا لم أنتخب أحدًا منذ العام ١٩٩٦. كما أنّي لم أؤيّد أحدًا منذ ذلك الحين. ومع ذلك لم نرفع الصوت عاليًا! لكنّ صوتنا، في كل الأحوال، لم يكن مسموعًا. فكاريزما زعمائنا كانت أكثر جاذبيّةً ودولارات حاكم المصرف أعمت الأبصار والأفئدة!
ثلاثون عامًا من الوهم! بل من جبال الأوهام! في السياسة والاقتصاد معًا! والآن وصلنا إلى الدولة الفاشلة! عاش النّاس وهمًا لذيذًا ومديدًا في الاقتصاد والسياسة. سلّموا بلدهم إلى مَنْ تآمروا عليها! وسلّموا أموالهم إلى مَنْ تصرّف فيها بخِفّةٍ وربما بخبث. فلا قضاء حماهم ولا إعلام كشف لهم الحقيقة ولا مثقّفين ناضلوا من أجلهم ولا اقتصاديّين وضّحوا لهم الكارثة! هل تواطأ الجميع بشكلٍ أو بآخر؟ بإمكاننا أن نقول ذلك من دون أن نظلمَ أحدًا.
يشتدّ الإعصار المالي ويشتد الخناق على رقاب اللبنانيّين. هل نستحق كلّ هذا الشر؟ لامس الدولار اليومَ ال٢٧٠٠ ل.ل. وهو مرشّحٌ للصعود أكثر فأكثر! كيف يمكن لي، كيف يمكن لنا جميعًا أن نتدبّر معيشتنا؟ لقد ازدادت الحالة سوءًا بعد ثلاثة عقودٍ على توقف الحرب الأهليّة. كنت أعتقد أنّ مستقبل أولادي سيكون أفضل ممّا عشناه ونعيشه! رضينا بالهمّ شرط أن لا يعيشه أولادنا. الآن ماذا أقول لأولادي؟ بل ماذا أقول للأجيال الطالعة؟
الوضعٌ قاتمٌ والمستقبل الذي ننتظره أسودُ وحالكٌ في السواد. ما العمل؟ قامت انتفاضة اللبنانيين! لكنّهم نزلوا إلى الشارع بعد فوات الأوان! ومع ذلك كان بإمكاننا فعل الكثير. والآن كلّ دقيقةٍ تضيع تعادل سنةً! قلت منذ البداية: لا خوف على الثورة بل الخوف من الثورة! مَنْ يضبط انفعالات النّاس عندما تجوع؟ فمن الطبيعي أن تعود البربريّة ويعود التوحش إلى شرائحَ كثيرةٍ من المجتمع اللبناني! عندها لا ينفع الندم! عندها ندمِّر ما تبقّى ونقضي على كل أملٍ في الخلاص.
هل نستسلم لهذا الواقع المظلم؟
لا تموت الشعوب. لكن علينا أن نحسن إدارة الكارثة! علينا أن نحسن العيش مع الإعصار المالي الذي سيشتد أكثر فأكثر. أول شروط النّجاح هو الثقة بقدرتنا على النهوض. لكن لا نهوض من دون انتماءٍ حقيقيٍّ إلى الوطن. وهذا ما يتطلّب منّا جميعًا الخروج من كلّ الأطر الضيّقة الطائفيّة والمذهبيّة والدينيّة والمناطقيّة إلى رحابة الانتماء اللبناني، إلى رحابة الانتماء إلى لبنان أولًا. عندها نخطو أول خطوةٍ في بناء الدولة الحديثة: دولة القانون والمؤسّسات والعدالة الاجتماعيّة. هل نحلُم؟ علينا أن نحلُمَ دائمًا حتى نستطيع تحمّل الحياة! وعلينا أن نعمل ونعمل ونعمل حتى نستطيع بناء ما قوّضه الأشرار وتعويض ما سرقوه!
ندخل في الأيّام القليلة المقبلة في مشهدٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ وماليٍّ مختلفٍ تمامًا بعد إعلان لبنان تخلّفه عن سداد مستحقّات اليوروبوند. هذا يعني بكلّ بساطةٍ، إعلان الإفلاس! ما هي التداعيات؟ لا شك أنّها كثيرةٌ ومؤلِمة! لكنّها تبقى أهون من تداعيات الدفع! فإذا دفعنا جاع اللبنانيّون وإذا لم ندفع أعلنّا لبنان دولةً مفلِسة مع ما يترتب على ذلك من تداعياتٍ سلبية!
آمل أن نكون واعين جدًّا لخطورة المرحلة المقبلة! وآمل أن لا نتعارك بعضنا مع البعض ونترك المجرمين الحقيقيّين! وآمل أن نحافظ على ممتلكات الدولة وممتلكات النّاس! فالمطلوب درجةٌ عاليةٌ من الوعي والانتباه للمخاطر التي تحيط بنا من كلّ جانب!
وفي النهاية أقول: لا مشكلةَ ولا مشاكل من دون حلول! والبشريّة قادرةٌ دائمًا على اجتراح الحلول! فإذا أردتم النهوض باشروا في بناء الدولة الحديثة!
وكلّ عامٍ وأنتم بألف خيرٍ! أحبُّكم جميعًا!