لم يعد سرّا أنّ الحوثيين باتوا يسيطرون على محافظة الجوف بعدما تمددوا في كلّ أنحائها على مراحل. احتاجوا من أجل تحقيق هدفهم إلى أشهر عدّة، وصولا إلى تطويق منازل محافظ الجوف، وهو من شيوخ المنطقة، ومنازل القريبين منه. تقرّر في ضوء الوساطات التي جرت عدم المسّ بهذه المنازل، على أن يكون هناك انتقال للسلطة في الجوف من التجمع اليمني للإصلاح، إلى الحوثيين الذين يسمّون أنفسهم “أنصار الله”.
هذا التطور المهمّ المتمثّل في استيلاء الحوثيين على الجوف،لا يعني أنّ مأرب، التي على حدود الجوف، ستسقط غدا. مثل هذا الاحتمال بات واردا في غضون شهر أو شهرين أو أكثر قليلا في حال بقيت الأمور على حالها. أي في حال بقيت “الشرعية” التي على رأسها الرئيس الانتقالي عبدربّه منصور هادي في غيبوبة.
يكشف ما شهدته الأشهر القليلة الماضية من تطورات، شملت تقدّم الحوثيين على جبهة نهم، ثمّ إلى الجوف، عجزا تعاني منه “الشرعية” منذ فترة طويلة. لا يدلّ على هذا العجز أكثر من التساؤلات القائمة في شأن العلاقات التي تربط، من تحت الطاولة، الحوثيين بالإخوان المسلمين الممثلين بحزب التجمّع اليمني للإصلاح.
من أجل السعي إلى معرفة ماذا بعد الجوف، المحافظة التي لديها أهمّية إستراتيجية بسبب الحدود المشتركة مع المملكة العربية السعودية وما يتردّد عن وجود ثروات كبيرة في باطن أرضها، لا بدّ من العودة قليلا إلى الخلف. لم يتوقف تمدّد الحوثيين منذ اجتاحوا محافظة عمران، معقل آل الأحمر زعماء حاشد، إلا بعد “عاصفة الحزم” التي انطلقت في مثل هذا الشهر من العام 2015. فبعد عمران التي سيطر عليها “أنصار الله” صيف 2014، تقدّم هؤلاء في اتجاه صنعاء التي سقطت في يدهم يوم الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014. تابعوا بعد ذلك تحرّكهم في اتجاه الوسط وبلغوا عدن. لولا “التحالف العربي” الذي هبّ من أجل منع الحوثيين من السيطرة على كلّ اليمن، بما في ذلك باب المندب، لكانت إيران حققت حلمها في تطويق شبه الجزيرة العربية من كلّ الجهات وعلى طول الحدود اليمنية – السعودية.
في كلّ مرحلة من المراحل الممتدة منذ خلافة عبدربّه منصور لعلي عبدالله صالح في شباط – فبراير 2012، أظهرت “الشرعية” ضعفا ليس بعده ضعف في كلّ المجالات السياسية والعسكرية وإدارة شؤون الدولة. لم تستطع أن تجد لنفسها موطئ قدم في أي مدينة يمنية كبيرة على الرغم من كلّ الإمكانات التي توفرت لها. خسرت صنعاء ثم عدن، التي بات معروفا كيف استعيدت من الحوثيين ومن استعادها. لم تحاول “الشرعية” يوما أن تكون في تعز عاصمة الوسط الشافعي والمدينة اليمنية الأكبر.
في كلّ مرحلة من المراحل، غاب العقل السياسي عن تصرّفات “الشرعية” التي أرادت تقليد عهد علي عبدالله صالح، بما في ذلك بعض خصاله السيّئة، إنّما في ظروف مختلفة كلّيا. كانت كل خطوة أقدمت عليها بمثابة كارثة بحدّ ذاتها. كيف يمكن وصف إعادة هيكلة القوات المسلّحة، بما في ذلك الحرس الجمهوري، بهدف واحد هو التخلّص من أيّ نفوذ لعلي عبدالله صالح أو لنجله العميد أحمد داخل الجيش؟ هل يكفي الحقد على علي عبدالله صالح لتبرير فقدان أيّ فعالية للقوات المسلّحة اليمنية في مواجهة الحوثيين؟
اعتقد عبدربّه منصور، الذي لا يستطيع حتّى زيارة المنطقة التي ولد فيها (الوضيع) في محافظة أبين الجنوبية، أن الانتقام من علي عبدالله صالح يمكن أن يكون أساسا لسياسة من نوع ما توفّر له طابع الشخصية المتميّزة. لم يدر أن الانتقام من شخص ما، بحسناته وسيئاته، لا يمكن أن يشكّل أساسا لسياسة، خصوصا لدى تبدل الظروف الداخلية والإقليمية بشكل جذري، وفي ضوء نجاح إيران في وضع يدها على صنعاء وعلى جزء من اليمن.
تتحمّل “الشرعية” جزءا كبيرا من مسؤولية وصول اليمن إلى ما وصل إليه بعد استكمال الحوثيين سيطرتهم على الجوف وتركيزهم المستقبلي على كيفية دخول مأرب. تبيّن بكل بساطة أن لا مجال للاتكال على هذه “الشرعية” في أي مجال من المجالات. ليس بعيدا اليوم الذي يمكن أن تتواطأ فيه “الشرعية” مع الحوثيين بغية إبعاد القوات التي يقودها العميد طارق محمد عبدالله صالح عن مشارف ميناء الحديدة المطلّ على البحر الأحمر.
حسنا، ارتكب علي عبدالله صالح أخطاء كثيرة. لا يزال عبدربّه منصور هادي حاقدا عليه، على الرغم من أنّه بقي 15 عاما في موقع نائب رئيس الجمهورية. أمّا حقد اللواء علي محسن صالح الأحمر، نائب رئيس الجمهورية، فهو مفهوم نظرا إلى ارتباطه بمعركة خلافة علي عبدالله صالح في السنوات العشر الأخيرة من عهده. هناك اعتبارات أخرى جعلت علي محسن صالح، القريب من الإخوان المسلمين، ينقلب على قريبه في السنة 2011، وينضمّ إلى مجموعة من الشخصيات، من بينها حميد عبدالله بن حسين الأحمر. لعبت هذه الشخصيّات دورها في تحريك الشارع من أجل التخلّص من عهد الرئيس اليمني الذي استمرّ 33 عاما. من بين هذه الاعتبارات ما له بعد إقليمي. في أساس هذا البعد الاعتقاد أنّ الإخوان المسلمين يمتلكون ما يكفي من القوة كي يحكموا اليمن!
في كلّ الأحوال، يظلّ استيلاء الحوثيين على الجوف بداية مرحلة جديدة في اليمن من دون أن يعني ذلك أنّهم في طريقهم إلى استعادة المبادرة على صعيد البلد كلّه. ما لا بدّ من الاعتراف به أنّهم يمتلكون قوّة عسكرية كبيرة وفعالة في غياب من هو على استعداد للتصدّي لهم. ما لا بدّ من الاعتراف به أيضا أنّ هناك تغييرا كبيرا طرأ على المجتمع اليمني، خصوصا في الشمال. ما يميّز هذا التغيير الضعف الذي أصاب تركيبة القبيلة. لم تعد القبائل مستعدّة للدفاع عن شيوخها كما كانت عليه الحال في الماضي. لم يعد من نفوذ يذكر لآل الأحمر، شيوخ حاشد، على سبيل المثال وليس الحصر.
بكلام أوضح، استطاعت إيران، التي يدين لها الحوثيون بالولاء الكامل، تغيير طبيعة المجتمع اليمني في الشمال. هذا يطرح أسئلة كبيرة بالنسبة إلى المستقبل اليمني والصيغة التي يمكن أن يستقر عليها البلد، يوما ما، في مرحلة سيأخذ فيها الحوثيون حجمهم الطبيعي. سيحصل ذلك لسبب في غاية البساطة يعود إلى أن المشروع التوسّعي الإيراني كلّه في حال تراجع من جهة، ولأن الحوثيين لا يمتلكون أي مشروع سياسي أو اقتصادي من جهة أخرى. يمتلكون الشعارات الفارغة التي لا تطعم اليمنيين خبزا ولا تحميهم من الأمراض لا أكثر.