أكثر من ذلك، يقول مطلعون: يعرف دياب أنّ كثيرين من الذين جاؤوا به حدَّدوا دوره بـ «وكيل التفليسة» الذي يحترق بانتهاء دوره. ومنذ أن رفض هؤلاء تشكيل الحكومة التي وعد بها دياب، أي حكومة التكنوقراط الحياديين، وتشبّثوا بالوزارات الحسّاسة و«الدسمة» وسلّموها إلى الوزراء - الوكلاء، أدرك الجميع أنّ دياب ذاهب نحو المأزق، عاجلاً أو آجلاً.
هاجس القوى التي أتت بحكومة دياب هو بناء المتاريس التي تحجب الإصلاح، لئلا «يَخرَبَ بيتُها». ومطلوب من دياب أن «يدبّر أمور» الإصلاح، بحدود ضيّقة وظرفية وشكلية... وإلاّ فإنّ هذه القوى ستعاقبه بسحب البساط من تحت أقدام حكومته: نحن الذين أتينا بك إلى السراي، وفي لحظةٍ نستطيع إخراجَك!
منذ اللحظة الأولى، لم يكن دياب مخدوعاً. لكنه يعرف أيضاً أنّه يملك أوراقاً يمكنه استخدامها للدفاع عن نفسه، ولو كانت قليلة ومحدودة. فـ«قوتُه في ضعفِه»، وهذه القوى عاجزة عن الإتيان ببديل ترتاح إليه أكثر، في ظل الضغط الدولي والعربي المتنامي.
لذلك، ما يفعله دياب، منذ تأليف الحكومة في 21 كانون الثاني، هو التريّث والانتظار لتنضج المخارج تلقائياً، وليقتنع الرافضون بالحلول المطروحة، فيوفِّر على نفسه أكلاف المواجهة.
ومن هذا المنطلق، هو يمرّر الوقت حتى ربع الساعة الأخير، ليقرّر ما سيفعله في استحقاقات «اليوروبوندز». وفي اقتناعه أنّ القوى المعنية ستضطر في النهاية إلى استباق موقفه والمبادرة إلى اتخاذ القرار المناسب.
لم يكن دياب في حاجةٍ إلى انتظار بعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان ليتأكّد مما هو مطلوب. وفيما البعثة عادت إلى واشنطن لوضع تقريرها حول الزيارة واقتراحاتها، فإنّ الورشة المفتوحة اليوم في بيروت بين الحكومة والخبراء والاستشاريين، الذين تمّ اعتمادهم لاتخاذ قرارٍ في شأن سندات «اليوروبوندز»، أنجزت تقريباً كل تصورها للحلّ. وهذا التصوّر يلتقي مع طروحات الصندوق في أي حال. والجميع مجبرون على إعلان النتائج خلال أيام قليلة، وفي موعد أقصاه منتصف آذار، إذا طلب لبنان مهلة الأسبوع الإضافية. لكن المعلومات تشير إلى أنّ في الحكومة وجهتي نظر:
- الأولى تجد أنّ من المنطقي التجاوب مع مطالب الصندوق والمؤسسات الدولية والجهات المانحة ضمن الحدود التي «لا بدّ منها»، وبعدما تمّ التفاوض مع بعثة الصندوق وتمّ إبلاغها بكل الهواجس. وفي رأي هذا الفريق، أنّ البديل هو سقوط الحكومة والبلد في هوّة لا صعود منها. ويبدو دياب نفسه أقرب إلى هذه النظرة، ومعه العديد من الوزراء.
- الثانية، هي الإصرار على رفض التعاون مع صندوق النقد، إلّا ضمن الحدود الاستشارية التي جاء بها الوفد إلى لبنان. ويمثّل هذا الرأي «حزب الله» تحديداً. ويضغط «الحزب» للحصول على دعم من حليفه المسيحي «التيار الوطني الحرّ» ورئاسة الجمهورية.
وهذا التصدّع داخل حكومة دياب بدأ ينكشف سريعاً مع استنفاد الوقت وازدياد الضغوط الدولية على الحكومة لإقرار خطة الإنقاذ المالية- النقدية - الاقتصادية، التي سيكون من ضمنها التعاطي مع سندات الدين الداهمة، إذ لا يمكن الاجتزاء بين السندات والخطة.
وعلى الأرجح، لن تكون العقوبات الأميركية المتنامية على «حزب الله» وحلفائه، والتي يتردّد كلام عن احتمال توسيعها قريباً، منفصلة عن هذه الضغوط. وتوحي الأجواء في حكومة دياب، أنّ الفريق المعارض لأي تدخّل لصندوق النقد يستعدّ للتصعيد، لأنّه يخشى أن يكون ذلك بداية لانتزاع كل أوراق القوة التي يملكها، بالمال ثم الاقتصاد فالسياسة وصولاً إلى الأمن.
ويحاول دياب أن يحلّ الأزمة ما بين الخطين المتناقضين من دون أن يؤدي ذلك إلى انفجار بينه وبين القوى المتشدّدة، وتالياً إلى تفكّك الحكومة باكراً. لكنه عاجز عن فرض الإصلاح المطلوب داخلياً، كما هو عاجز عن تجاوز التحذيرات الصادرة عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والطواقم الديبلوماسية العربية والدولية الفاعلة.
وفي النهاية، دياب مجبر على اتخاذ قراره قريباً. ومن سخريات الأقدار أنّه سيواجه الذين جاؤوا به إلى السراي وليس الذين يعارضونه. وهذا هو المأزق نفسه الذي وقع فيه الرئيس سعد الحريري مع شركائه في التركيبة السابقة، والذي هرب منه تاركاً القنبلة تنفجر بالآخرين.
وهكذا، تدور الدائرة مجدداً مع دياب، كما الحريري. وثمة باب مفتوح أمام دياب للخروج أيضاً. ولكن، إذا كان للحريري هامش التخطيط للعودة على حصان أبيض، بالتكافل والتضامن مع شركاء الأمس واليوم، فإنّ طموحات دياب في حقل الفروسية محدودة. ولذلك، هو يجري الحسابات بكثير من الدقّة. وقرارُه صعب في أي حال. فليس سهلاً إيجاد مكان آمن بين حجري المطحنة.