غادر وفد صندوق النقد الدولي بيروت، وبقيت هنا الأزمات المتراكمة مع وعد من الوفد بالاستعداد لتقديم المزيد من المشورة الفنية للبنان، لكن من دون الإعلان عن رأيه بموضوع السندات المتوجبة في آذار المقبل.
وبانتظار خطة الحكومة التي وعدت بإبلاغها للصندوق ليبنى على الشيء مقتضاه، بات من المسلّم به أن مجلس الوزراء وافق على الاستعانة بخبيرين دوليين مالي وقانوني لإعادة هيكلة الدين بما يسمح بتسديده من دون تكليف الدولة أعباء اضافية. بداية، لا بُد من الإشارة إلى أنّ سبب تأخّر لبنان الرسمي في حسم قراره بالنسبة إلى تسديد الديون من عدمه، مردّه إلى إنقسام في الرأي إزاء هذا الموضوع الحسّاس. فحاكم مصرف لبنان ومن خلفه جمعيّة المصارف، يُريدون تسديد المُستحقّات المالية المُتوجّبة على لبنان في موعدها على أن تبدأ إجراءات المُعالجة بعد ذلك، وبعض القوى السياسيّة الفاعلة كانت تميل إلى هذا الخيارومنها التيّار الوطني الحُرّ، في حين تُعارض قوى أخرى، وفي طليعتها حركة أمل، أيّ صرف إضافي من ودائع المصارف!.
وفي كل الأحوال، إنّ الحكومة اللبنانيّة الحائرة حتى الساعة مُلزمة في نهاية المطاف بحسم خيارها، وهذا الحسم مُرجّح أن يظهر في الأيّام القليلة المُقبلة، وتحديدًا خلال مُنتصف الأسبوع المقبل كحدّ أقصى، وبحسب المعلومات المُتوفّرة، فإنّ لبنان الرسمي لن يلجأ إلى خيار عدم الدفع من دون التنسيق مع الدائنين، لأنّ تداعيات هذا الخيار كارثيّة، باعتبار أن سُقوط قيمة سندات "يوروبوند" يؤثّر على موجودات مصرف لبنان الإحتياطيّة بشكل مُباشر، وسيؤدّي إلى عُقوبات على لبنان، وسيُحطّم ما تبقى من ثقة هزيلة في المصارف. ، فإنّ الخيار الذي من المُرجّح أن تلجأ إليه الحُكومة يتمثّل في إعادة هيكلة الدين العام، بالتنسيق مع الدائنين. والرُدود مَشروطة من جانب الجهات الدائنة، لجهة إمكان قُبول هذا الأمر، مع إستعداد لتأجيل كل إستحقاقات لبنان الماليّة لعامي 2020 و2021، لكن ليس كرمى لعُيون لبنان واللبنانيّين، بل في مُقابل كسب المزيد من الفوائد الماليّة الضخمة، والتي يُمكن أن تصل إلى حدود مئتي مليون دولار! وبالتالي، إنّ كل الإتصالات القائمة حاليًا، مُرتبطة بشروط إعادة الهيكلة، أي بتفاصيل المبالغ الماليّة التي سيتمّ دفعها في المُستقبل، وبتواريخها وبفوائدها، في حال وافق كلّ من لبنان والجهات الدائنة على إعادة هيكلة الدين.
إقرأ أيضًا: العلاقات اللبنانية الخليجية سلبية هل من مبادرة للتصحيح؟
وفي المَعلومات أيضًا، أنّ مُمثّلي صُندوق النقد الدَولي الذين أبدوا إستعدادهم للتعاون وللمُساعدة، إشترطوا أن تتزامن إعادة هيكلة الدين العام، مع إعادة هيكلة الدولة ككل، على صعيد إصلاح هيكليّتها الوظيفيّة والهرميّة أوّلاً، وعلى صعيد توازن مصاريفها مع مداخيلها ثانيًا، وعلى مُستوى ضبط الهدر ومُكافحة الفساد ثالثًا، إضافة إلى إتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لإعادة التوازن إلى ميزانيّتها. وبالتالي، ستكون الحُكومة اللبنانيّة مُلزمة بإتخاذ سلسلة من الإجراءات التنفيذيّة وغير النظريّة، لإثبات جدّيتها في تلبية مطالب صندوق النقد الدَولي، قبل الإستفادة من أيّ مُساعدة عينيّة من جانب هذا الأخير. ووسط كل ذلك بدا غريباً جداً عدم توقيع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على موازنة 2020 حتى اليوم، بعد أن أحيلت إليه أوائل هذا الشهر. وقد عبّر مرجع دستوري عن هذا الاستغراب خصوصا وأن البلاد بأمسّ الحاجة الى تنظيم شؤون الصرف إداراتها ومؤسساتها العامة وتنظيم النفقات، خصوصاً وأن الصرف في الوزارات على القاعدة الاثني عشرية لم يعد له مسوّغ قانوني بعد انقضاء كانون الثاني وإقرار الموازنة من المجلس النيابي وتوقيعها من رئيس الحكومة. وإذ ذكّر المرجع الدستوري بحق رئيس الجمهورية في التوقيع على الموازنة أو ردها الى المجلس النيابي اذا كان هناك ما يستدعي الرد، سأل عن الجدوى من التأخير بعدم التوقيع طالما أن الرئيس لم يرد الموازنة؛ خصوصا وأن البلاد ليست بحال من الترف الذي يسمح لها بتأخيرٍ من هذا النوع.
ولأنّ الوضع الذي يمرّ به لبنان حاليًا هو إستثنائيّ على الصعيدين الإقتصادي والمالي، فإنّ المصارف اللبنانيّة تدرس بدورها كيفيّة الحفاظ على إرث كانت قد بنته بجهد كبيرعلى مدى نحو مئة عام، وهو مُهدّد حاليًا بالسُقوط نتيجة غياب عامل الثقة بين المُودع والمصرف. وبالتالي، يُنتظر أن تلجأ المصارف في المُستقبل إلى سلسلة تدابير تطمح إلى ترميم هذه الثقة في مرحلة أولى، على أمل إستعادتها من جديد في مرحلة لاحقة. لكنّ هذه التدابير لن تنطلق قبل أن تحسم الدولة اللبنانيّة خياراتها مع الدائنين، وأن تعرض خطّتها الإنقاذيّة على الطاولة.
وفي حال الإنتظار، يعيش اللبنانيّون بقلقٍ مُستمرّ على المصير، في ظلّ مشاكل لا تنتهي، وأحلام مُحطّمة. فهل سنشهد في الأسبوع المُقبل، بصيص أملٍ في نهاية النفقِ المُظلم، أم أنّ الآمال ستخيب بشكل نهائي هذه المرّة. الأيّام القليلة المُقبلة ستحمل أولى الإجابات، مبدئياً من خلال اسلوب تعامل الحكومة الجديدة مع إستحقاق التاسع من آذار المُقبل.