يتعاطى البعض مع مسألة إعادة هيكلة الدين العام، وكأنّها بمثابة ذهاب الى الحرب، الهدف الاساس فيها الانتصار على العدو. هذا التوصيف قد يصحّ أكثر في دول تواجه في هذا التوقيت هذا النوع من الأزمات، مثل الارجنتين مثلًا. لكننا في لبنان لا نستطيع أن نتعاطى مع هذا الملف بالتقنية نفسها، لأننا اذا هزمنا العدو الافتراضي، خسرنا، واذا انتصر علينا خسرنا ايضًا!
في الواقع، تتحضّر الحكومة اللبنانية بإسلوب جيد للبدء في مرحلة التفاوض على إعادة هيكلة الدين العام. ولولا الوضع الاستثنائي لطبيعة الدين اللبناني، لأمكن القول انّ الظروف مناسبة لكي تنجح الحكومة في تحقيق إعادة هيكلة عميقة للدين. والمقصود هنا، النجاح في إقناع المقرضين بخصم نسبة كبيرة من حجم الدين، مقابل التعهّد بدفع ما تبقّى.
ووفق مؤشرات اسعار السندات التي أصبحت عند مستوى 35 سنتًا للسند، أو اقل، يمكن الاستنتاج أنّ السعر المنطقي الذي تستطيع ان تعرضه الحكومة على الدائنين هو 35% من حجم الدين فقط، أي السعر السوقي للسندات. هذا ما تنوي أن تفعله الارجنتين، في هذه الفترة بالذات.
وقد يكون من المفيد الإشارة الى أنّ «أشمور»، التي اشترت السندات اللبنانية استحقاق آذار ونيسان وحزيران 2020، هي نفسها مستثمر اساسي في السندات الارجنتينية، وتبدي تصلبًا كبيرًا في المفاوضات، التي لم تبدأ رسميًا بعد، بل بدأت من خلال حرب نفسية متبادلة بين الارجنتين والدائنين قبل بدء التفاوض الرسمي.
ويدلي المسؤولون الارجنتينيون بمواقف تفيد بأنّ بلادهم ستعرض على الدائنين قبض السعر السوقي للسندات، (45 سنتًا للسند)، أي خصم 55% من حجم الدين الذي يتمّ التفاوض عليه وتبلغ قيمته 100 مليار دولار.
لكن المشكلة التي تواجه الحكومة اللبنانية، انّها عندما تفاوض حاملي السندات على اقتطاع نسبة كبيرة، وإعادة جدولة الدين، فهي تعرف انّ الـ31 مليار دولار، قيمة مجموع اليوروبوند، لا يحمل منها المستثمرون الأجانب اكثر من 5 الى 6 مليارات دولار، وما تبقّى تحمله المصارف اللبنانية ومصرف لبنان.
وبالتالي، فإنّ الـHaircut على السندات سيكشف المصارف اكثر، ويجعلها امام خيار من اثنين: إمّا نقل قسم من الخسائر الى الزبائن، وإمّا استخدام الرساميل الخاصة، بما يعني الإفلاس. وفي الحالتين ستكون المشكلة معقّدة.
اذا أضفنا الى ذلك، ما تبقّى من دين عام بالليرة، (ما يساوي حوالى 60 مليار دولار)، تصبح الامور معقّدة أكثر. وليس صحيحًا انّ مشكلة الدين بالليرة بسيطة، انطلاقًا من مبدأ قدرة لبنان على طباعة عملته بالكميات التي يريدها. وقد وصلت نسبة التضخّم حتى الآن الى حوالى 45% بسبب انخفاض قيمة الليرة في السوق الموازية.
وبالتالي، لا يستطيع النقد الوطني تحمّل المزيد من الهوامش، لأنّ المعالجة عن طريق تضخيم الكتلة النقدية بالليرة الى مستويات كبيرة، سيؤدي حتمًا الى نوع من الانهيار الكامل لقيمة النقد. ولا ضرورة للتذكير بأنّ بعض الدول التي عانت من انهيارات مماثلة، وصلت قيمة عملتها الى ما دون كلفة طباعة النقد، بما يعني انّ سعر الليرة قد يتدنّى الى مستويات تُنذر بكارثة فقر حقيقي ومُعمّم على اكثر من 85% من اللبنانيين.
من هنا، تبدو المفاوضات التي قد تبدأ قريبًا وفق المؤشرات، لإعادة هيكلة وجدولة الدين العام، دقيقة وحساسة، وسيحتاج لبنان في خلالها الى دعم الدول الصديقة، التي لا تبدو متحمسة للاعتماد على مصداقية السلطات اللبنانية، وبالتالي سيكون صندوق النقد، في حال الموافقة على طلب برنامج انقاذي بالتعاون معه، الضمانة للوصول الى اتفاقات منطقية. واذا قضت المصلحة بإجراء Haircut قاسٍ على السندات، ينبغي تأمين خطة جاهزة لإعادة رسملة المصارف، واحتساب الاقتطاع الذي يمكن تحميله للمودعين الكبار.
في المناسبة، ورغم انّ الارجنتين تستعد اليوم لمفاوضة صندوق النقد على خصم نسبة كبيرة من ديون حصلت عليها من الصندوق نفسه (حوالى 40 مليار دولار)، بالإضافة الى خصومات تريد الحصول عليها من مقرضين أجانب، فانّ المؤشرات تؤكّد انّ صندوق النقد سيكون الجهة التي قد تضغط لإقناع المستثمرين الآخرين بالقبول بإجراء خصومات كبيرة في عملية اعادة هيكلة الدين العام.
من الملفت انّ الدعم الذي حصلت عليه الارجنتين، التي سبق وتعثرت اكثر من مرّة، من صندوق النقد في السنوات الأخيرة، سمح لها بإصدار سندات حكومية استحقاق قرن (100 عام)، أي انّ المقرضين لن يحصلوا على أصل الدين سوى في العام 2117. وهذا النوع من السندات لا تستطيع أن تصدره وتسوّقه سوى البلدان الموثوقة جدًا، على غرار المانيا مثلًا، أو النمسا التي سبق وأصدرت هذا النوع من السندات في 2017، وتحقق السندات النمساوية، بفضل الإقبال عليها، عوائد مرتفعة. وبالتالي، يعطي هذا الوضع فكرة عن أهمية وجود صندوق النقد كضامن، بحيث تصبح دولة مثل الارجنتين قادرة على إصدار سندات استحقاق العام 2117!
بانتظار ان تُنجز الخطة الإنقاذية التي تعدّها اللجان المختصة في الحكومة بالتعاون والتشاور مع مؤسسات عالمية متخصصة، سيكون صندوق النقد قد أعدّ بدوره تصوره للتفاوض مع السلطات اللبنانية على هذه الخطة، وصولًا الى مشروع مشترك يُفضي الى بدء تنفيذ الإنقاذ. واذا لم تدخل معوقات غير متوقعة على الخط، مثل ايديولوجيا رفض ما يُطلق عليه توصيف «الوصاية»، سيكون لبنان مع حلول حزيران أو تموز، على موعد مع مرحلة جديدة، ستكون صعبة وشاقة، لكنها لن تخلو من الأمل، لأنّها ستكون رحلة بدء الصعود من الهوّة.