حفظ موسى وهبه درس الكندي جيِّدًا. لذا، بالإمكان وصفه ب"كندي العصور الحديثة" أيضًا، فلا إمكان للتّفلسف بالعربيّة إن لم يكن التراث الفلسفي بالعربيّة حاضرًا، إن لم يكن "جسد الفلسفة الحيّ" كما يحلو لوهبه أن يسمِّيَه، حاضرًا أمام قراء العربيّة؛ لأنَّه لا يمكن للفيلسوف أن يبدأ دائمًا من جديد. والفيلسوف يبني نتاجه على أنقاضِ نتاجاتِ غيره. فهو يحاور ويعارض غيره من الفلاسفة ويختلف عنهم ويتميّز منهم. وكلُّ فلسفةٍ كبيرةٍ تختزل في ثناياها القول الفلسفي كلّه. فلا شيءَ يموت في الفلسفة.
كلّ فيلسوفٍ كبيرٍ يبقى خالدًا مهما مرّ عليه الزمن. وربما يكون الفيلسوف مضيئًا بعد موته أكثر ممّا كان في حياته كما يذهب إلى ذلك جيل دولوز لأنّ النّص الفلسفي نصٌّ مكثَّف وغنيٌّ، ويبقى عرضةً لقراءاتٍ مختلفة. يطرح الفيلسوف طريقته الجديدة في التفكير، طريقته الجديدة في التّساؤل، طريقته الجديدة في التّفلسف.
وهذه الطريقة الجديدة والمختلفة تبقى خالدةً لا تموت. لذا، ما زلنا نرجع إلى أفلاطون وأرسطو ومنْ قبلهما من فلاسفة الإغريق لأنّ لكلّ واحدٍ منهم طريقته المختلفة في التفكير مع أنّ تلميذ المرحلة الابتدائيّة يتجاوزهم جميعًا في معلوماتهم العلميّة.
بناءً عليه، ليست الفلسفة خبرًا عن العالم كما كان يحب وهبه أن يردّد دائمًا. وبالتّأكيد ليست خبرًا عن ما بعد العالم مع أنّها تنهمُّ بالأسئلة التي يطرحها العقل بطبيعته وتعتبر هذه الأسئلةَ أصيلةً، وإن لم تكن لدى العقل القدرة للإجابة عنها بشكلٍ نهائيّ، فيحاول جاهدًا، عبر الفلسفة، بلا كللٍ ولا مللٍ، أن يجيب عن الأسئلة التي تُقلقه من أجل الشّعور بالرّاحة. لكن عبَثًا! إذ ما تلبث أن تنهار العمارات الفلسفيّة ، إذ ما تلبث أن تتعرّض السَّساتيم الفلسفيّة إلى ثقوبٍ كبيرةٍ تمزِّقها، إذ ما تلبث أن تتغيّر الأنظومات الفلسفيّة، فتغدو الحاجة ماسّةً إلى فلاسفةٍ جددٍ يحاولون البناء من جديد. كأنّ الفلسفة سعيٌ إلى طموحٍ لن يتحقّق مطلقًا. فالإنسان لا يستطيع أن يتوقّف عن التفلسف، عن السّعي ما دام هناك عقلٌ يفكّر ويطرح الأسئلة التي تؤرِّقه.