تحوّلت الدولة اللبنانية إلى دولة بوليسية بامتياز. تتلاحق استدعاءات يومية إلى المخافر والقضاء، منها لأخذ الإفادات لفتح ملفات قضائية، ومنها على سبيل التخويف والمضايقة، أو حتى التوقيف الاعتباطي ولو لساعات.
توالى الملاحقات بحق ناشطين وناشطات وصحافيين وصحافيات تحت حجج مختلفة. منها ما تديره الأجهزة الأمنية بيدها، ومنها ما تعمل على نكئه القوى السياسية وأزلامها. ولا مغزى من كل هذه الممارسات إلا ترهيب الناس وشد الخناق على رقابهم: ممنوع أن تحكوا أو تنتفضوا أو تنتقدوا الجوع والفساد والهدر والإفلاس والخطاب الطائفي والعنصري؛ محكوم عليكم العيش ضمن الرعية فقط. وإن فعلتم ونطقتم، مصيركم السجن أو "المرمطة" في المحاكم أو المخافر. تقول لنا السلطة هذا المضمون بشتّى الوسائل منذ 17 تشرين الأول، وبتنا في مرحلة هيستريا الاستدعاءات والملاحقات.
مزاج سياسي أمني
كل هذه الأجواء البوليسية يعزّزها مزاج عام، أطلّ علينا مع إعلان الحكومة الجديدة. فورثت الأخيرة عن سابقتها سحل المتظاهرين في الشوارع وتعذيبهم في الفروع الأمنية. وتعاملت منذ اللحظة الأولى وفق النهج الأمني نفسه: محاولة إزالة خيام الاعتصام من ساحات بيروت، فتح الطرقات بالقوة المفرطة غير الضرورية، تأميناً لنصاب الجلسة البرلمانية غير الدستورية، إشراك الوحدات الخاصة من الجيش اللبناني (فوج المغاوير تحديداً) في قمع المتظاهرين، توقيف باصات المتظاهرين على الحواجز في المناطق منعاً لوصولهم إلى بيروت، تشديد لوائح الاستدعاءات والعديد غيرها من الممارسات التي تستكمل المشهد الأمني.
ففي الحكومة الحالية مناخ حاول بعض وزرائها تعميمه في الاجتماعات السياسية والأمنية. إذ تقدّم أحد الوزراء "السياديين" باقتراح قطع الإنترنت وخدمات التواصل الإلكتروني في محطات سياسية محدّدة، تحديداً يوم جلسة الثقة، علّ ذلك يعرقل تواصل مجموعات الثورة في ما بينها.
وجاء هذا الاقتراح الشفهي معللاً بأنه تمّ استخدامه في دول عدة ونجح! أما عن نجاح هذا الخيار، فيمكن مراجعة تجارب سوريا، مصر، إيران، الصين وغيرها من ديكتاتوريات العالم. وإذا كان الأمن يحافظ على سلامة الديكتاتور ونظامه، فمن شأنه في لبنان المحافظة على أمن الأوليغارشية الحاكمة. وما الأوليغارشية غير ذلك؟ وما الأمن إلا أداة بيد الحاكم؟
طموح القمع
ويمكن فهم هذا الخيار السياسي والمزاج الأمني من صغار من في السلطة. دعوات سحق المتظاهرين والتمنيات السياسية بذلك واضحة. والتحريض عليه أوضح في استخدام توصيفات "زعران" و"قطاع طرق" و"بدّهم ترباية" وغيرها من التعابير الرائجة في أوساط السياسيين ومرتزقتهم. وكل هذا يُترجم في ممارسات القوى الأمنية أساساً. فمشهد ثكنة الحلو عبرة، في السحل والضرب والاعتداء على الموقوفين بالركل والإهانة المعنوية والجسدية. لا بل فيه هذا المشهد دلالة، خصوصاً إذا ترافق مع منطق بعض العناصر الأمنيين، الذين لم يترددوا في قول الحقيقة في وجه بعض الموقوفين المضروبين: لو كنا في سوريا لكنّا أكلناكم! هؤلاء لا يريدون ضرب الثورة ومن فيها فقط، يبغون القتل. وما تصويب الرصاص المطاطي على العيون إلا تعبير عن ذلك. في عقولهم طموح وحش قمع الأنظمة العربية وسحق الشعوب. يريدون تحقيق "القصاص" بأي ثمن. وعلى الرغم من كل ذلك لم نعلم بمذكرة عقاب داخلي واحدة صدرت ضد من نكلّوا بالناشطين. فقط "بهدلة" علنية لعنصر حاول إطلاق المطاطي يوم جلسة الثقة.
وفي هذا مؤشر خطير على تجاوز مدوّنة قاعدة السلوك لعناصر قوى الأمن الداخلي، وعلى التسامح والتساهل مع هذه الممارسات. كما لو أنها تأتي في إطار أمر مبطّن بالقمع الوحشي.. وهو ما يتوافق أساساً مع مفهوم بوليسية الدولة وكل الممارسات الأمنية والقضائية التي تتوالى علينا تباعاً.
الكيدية العونية
بغضون أسبوع، توالت الاستدعاءات إلى المكاتب الأمنية. وكأنّ سيلاً من الملاحقات يضرب ثوار 17 تشرين. جزء كبير منها يدخل في إطار الكيدية السياسية للتيار الوطني الحرّ. قبل الثورة، توالي الدعاوى على الزميل فداء عيتاني وغيره من الزملاء أو الناشطين، خير دليل على هذه الكيدية. وفي زمن الثورة من شأنّ هذا النَفَس أن يتصاعد. وهناك أربعة ملفات تنبثق عن التيار أو مسؤولين فيه بحق ناشطين وصحافيين. أبرزها استدعاء تسعة ناشطين للتحقيق معهم في دعوى تقدّم بها النائب زياد أسود نتيجة اعتدائه على المتظاهرين للتيار خلال عشائه الشهير في جونيه. واستُدعيت الإعلامية ديما صادق لأخذ إفادتها في دعوى مقدّمة من رئيس التيار، جبران باسيل، ببث أخبار كاذبة والتحريض على الطائفية والعنصرية (!) وحسب ما كتبت صادق على حسابها على تويتر، فإنها تلقت اتصالات من المباحث الجنائية المركزية للمثول أمام محققيه ظهر الإثنين. كما تم استدعاء الناشط والمدوّن جينو رعيدي في الدعوى نفسها، وهي تتمحور على إعادة نشر فيديو لرجل يقول إنّ أنصاراً من التيار الوطني الحرّ اعتدوا عليه بالضرب. وفي اليوم نفسه، تم استدعاء الناشط شربل خوري إلى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية عند العاشرة صباحاً، في دعوى مقدمة من المستشار الاقتصادي للتيار، شربل قرداحي، نتيجة تعليقات وأخذ وردّ إلكتروني على موقع "تويتر".
وفي الأجواء العونية أيضاً، تناقل ناشطون على تطبيقات التواصل الاجتماعي خبراً يفيد باختفاء الشابين، أحمد حموي وزيد مدني، بعد دخولهما القصر الجمهوري لتنفيذ عمليات صيانة فيه. ويضيف الخبر أنّ توقيف الشابين جاء بعد اختراق هاتفيهما اللذين فيها فيديو يستهزئ برئيس الجمهورية وباسيل. وهو خرق واضح للخصوصية وتوقيف اعتباطي، بانتظار التأكد من كامل الرواية وما يدور فيها من تفاصيل إضافية.
استدعاءات وتجاوزات أخرى
وفي إطار مسلسل الاستدعاءات هذا الأسبوع أيضاً، انضم كل من الناشطين خلدون جابر وملك علوية إلى لوائح الاستدعاء، في حين تم في بعض المناطق توقيف ناشطين من دون استدعائهم حتى. وكل هذا من أجل تأديبهم والتنفيس عن كبت أمني مستمرّ منذ أول أيام الثورة.
فهذا الكبت ولّد على ما يبدو شهية بوليسية لا يمكن حصرها في مكان أو أشخاص. وفي هذا الإطار أكدت لجنة الدفاع عن المتظاهرين في لبنان في بيان الجمعة 21 شباط إنها "تتلقى أسبوعياً بلاغات حول العشرات من الاستدعاءات إلى التحقيق على خلفية المشاركة في الثورة من قبل الأجهزة الأمنية المختلفة، ومنها مخابرات الجيش وشعبة المعلومات والمباحث المركزية وغيرها من المخافر". وأشارت إلى كم من التجاوزات التي تبدأ بمصادرة النيابة العامة العسكرية هواتف بعض المنتفضين، ولا تنتهي بتحقيق مخابرات الجيش مع قاصرين، من دون حضور أهلهم أو مندوبة الأحداث، وكل ذلك خلافاً للقانون
لا مغزى من كل ما سبق، وما سيلحق على الأرجح، إلا تكريس واقع بوليسية الدولة: ممنوع أن نتنفّس! ولو أنّ النفس يقوى مع كل مسيرة أو اعتصام أو تحرّك يصرخ فيه الناس لإسقاط النظام أو تحرير الناس من الفساد والفاسدين.