... كيف تَسيغُ شراباً وطعاماً وأنتَ تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً... فاتَّـقِ الله واردُدْ لهؤلاء القوم أموالهم ...». (علي بن أبي طالب)
يأكلون حراماً ويشربون حراماً، وحراماً يفعلون ويقولون، ولا يردّون لهؤلاء القوم أموالهم، وبتْنا نخشى أن تستمرّ فصولُ هذه القصّة ألف ليلة وليلة، تتلاعب بها شهرزاد لكسب قلب السلطان.. ويبقى أحدُ أبطالها علي بابـا فوق الشبهات وتقتصر المحاكمات على الأربعين لصّاً..
يراودني دائماً في هذا المجال، الإستشهاد بالإسكندر المقدوني الذي فتح بالقوة عـدّة بلدان، ثمَّ أمـر بالقبض على لصٍّ من لصوص البحر، وحين راح يسأله بأَيّ حقٍّ يسرق مال غيره، أجابه اللصّ: أنا أسرقُه بسفينة صغيرة فأُسمَّى لصّاً، وأنت تسرقُه بأسطول كبير فتُسمَّى فاتحاً.
هكذا، في زمن الفتوحات تُخفى أساطيل الفساد، وتُرمى الإتهامات على صغار القراصنة.
لأنّ الجنرال ديغول الرئيس، كان يُخفي الإعتراف بتفشّي الفساد في فرنسا، راح أحدُ الفنّانين الفرنسيين يكتب على جدران باريس: «رأس ديغول في الغيوم ورجلاهُ في الفراغ ...»
ولأن الجنرال عون الرئيس، قـد شـنّ حملةً على ما شاع من فساد، وأَكّـد «عـزْماً على استرداد ما نهبَهُ السياسيون ورجال الأعمال من مال..» فقد كان يفترض بالثوار اللبنانيين أن يكونوا فنَّانين وهمْ يندّدون بأهل البلاط، فيكتفوا بالكتابة على جدران بيروت من دون أن يحطمّوا بلاطَها.
ولكنَّ أهل البلاط لم يدركوا ربّما، أنّ أهمية استرداد الأموال المنهوبة ليست في ضروراتها المالية الملحّة فحسب، بل لأنّ لها دلالات أشمل أهمُّها: أنّ في لبنان دولةً، وأنّ في هذه الدولة قانوناً وقضاءَ عدل، وأنّ الحكومة اللبنانية ليست شركة لبنانية تجارية مساهمة.
ولأننا نعرف أنَّ كبار المرتكبين محصَّنون بالحصانات وبالقوانين الوهمية، ولسنا من السذاجة الى حدّ أن ننتظر من الحكومة أن تشهر سيف الحجّاج بن يوسف على رؤوسٍ أينعتْ وحان قطافها.
فإنّ القرار باسترداد المال من الكبار، مرتبطٌ بالقبضة الحاكمة إلى جانب قوانين المحكمة... إنّـه الإختبار المُلحّ لقبضة الرئيس القوي وهو القائل لدى استقباله القناصل الفخريّـين: «إنّ المرحلة الجديدة قدْ بدأت».
فهل يستطيع الرئيس في النصف الثاني من الولاية أن يخصِّب بمفعول رجعي النصف الأول منها، والسنين الثلاث العجاف..؟
وما رأي حزب الله الذي ينأى بنفسه عن العيوب، والذي كان سبّاقاً إلى إعلان المقاومة على الفساد..؟ هل يستطيع أن ينأى بنفسه عن قول الإمام علي بن أبي طالب «... إتَقِ الله واردُدْ لهؤلاء القوم أموالهم..» بـلْ، هل يغضّ الطرف عن قول الرسول: «لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها...؟»
إذا سقطتْ كلُّ الأفعال وكلُّ الآمال على مَنْ تبقّى من الرجال، نخشى أن نقول مع الأديب الفرنسي جورج برنانوس بعد استفحال الفساد في فرنسا: «هل بلادي حقاً تستحقّ الإنقاذ...»؟