لا يخفي خبراء في الشؤون المالية والنقدية ممن يتمتعون بنسبة عالية من المناقبية العلمية والحرية والاستقلالية عن الدائرة الضيّقة المتحكمة بالسلطة منذ عقود، تشكيكهم بمجمل الأرقام التي بُنيت عليها السياسات المالية والنقدية على اكثر من مستوى. فهم يدركون انّ الفشل الذي اصاب الخطوات الإستراتيجية الكبيرة مردّه الى الجهل بكثير من الحقائق والأرقام التي استُخدمت في بناء خطواتها المتدرجة، الى ان وصلت البلاد الى المأزق الذي فاجأ «اهل البيت» قبل غيرهم ولا سيما منهم الذين يستقون معلوماتهم من بعض بوابات المعلومات الخارجية المتعددة الاختصاص.
فرغم الحملات الإعلامية المُكلفة التي خيضت، لطمأنة اللبنانيين في الفترة السابقة التي سبقت «الزلزال» المالي والنقدي في البلاد، فقد ثبت بالوجه الشرعي انّ هناك عملية سطو كبيرة نُفّذت، سواء كان ذلك عن قصد او غير قصد بحق الشعب اللبناني وودائعه ومدخراته. هذا عدا ما ستدفعه اكثرية اللبنانيين من كلفة مادية ونفسية، نتيجة تبخّر كل الضمانات الاجتماعية والإنسانية التي كانوا يحلمون بها في لحظة من اللحظات.
لا يوجد من بين العارفين - سوى المكابرين منهم ـ من يتجرأ على الكشف عمّا يمكن ان تصل اليه الأمور. ففي علم البعض، أنّ ما حصل كان متوقعًا، وإن لم يشاركه آخرون من «اهل البيت» السياسي والنقدي. فقد كان الطرفان يعلمان ما يتبادله كثر في الأندية الدولية والاقليمية مما يثير القلق.
ولذلك بقي النزاع صامتاً بين الذين حذّروا وأولئك الذين جهدوا في نفي مضمون سلسلة التقارير التي اصدرتها مراكز دراسات ومعها مؤسسات التصنيف الدولية، التي قالت ما قالته من ملاحظات خطيرة، كان يمكن ان تمسّ أمبراطوريات البعض وكثيراً من العروش المالية والنقدية والسياسية.
كان ذلك ممكناً، لو انّ الأمور كانت تجري في بلد آخر وبوجود رجال دولة يمسكون بالأمور في دولة بكل مواصفاتها. لكن على عكس ذلك، فقد وُجد من سعى بما امتلك من نفوذ، للتخفيف من مخاطر ما حذّرت منه هذه المؤسسات، وجنّد بعضهم وجوهًا وابواقًا ومنصّات عدة لتكذيبها واتهام اصحابها بالعمالة.
وليس خافياً على العارفين بكثير من الحقائق، انّ احدهم او اكثر، وصل الى مرحلة اقترح فيها الادّعاء على هذه المؤسسات المحترمة ومحاكمة مسؤوليها بارتكاب جرائم المس بسلامة النقد وتهديد الأمن القومي والاجتماعي. هذا عدا عن اولئك الذين حاولوا بالترغيب أو بالترهيب التأثير على اداء البعض منها، مع الاعتراف بأنّ بعضهم رضخ لما طُلب منه في الشكل والتوقيت دون المضمون، فقبل بتأجيل مواعيد اصدار تقاريره للكشف عن تصنيف جديد لما آل اليه الوضع، من دون المس بمضمونها ايًا كانت النتائج التي ترتبت عليها.
وهناك من اعترف صادقًا بقدرة بعض المسؤولين على استكشاف المرحلة واستشراف ما حصل، وتحديدًا ما بلغته حال المالية العامة، لو وجد آذانًا صاغية، او انّه قبل بالصمت على مضض في انتظار قرارات إصلاحية، كان يمنن النفس بإمكان اتخاذها، من دون ان تتحقق الوعود التي قُطعت، إما عن عجز او تواطؤ لا فارق، فالنتائج هي هي.
ولا يخفي احد الخبراء، انّه كاشف موفدًا دوليًا جاء الى بيروت سعياً الى مساعدة اللبنانيين، في توفير الأجواء التي تضمن نجاح ورش مالية نُظمت من اجل دعم لبنان، لمجرد ان وجد هذا الموفد عالمًا بكثير من التفاصيل «المرعبة» التي كان يتنكر لها اللبنانيون عن قصد او عن غباء لا فارق، الى ان انكشفت اللعبة. فانقلبت الأجواء الدولية الداعمة للبنان، وتحوّلت الى فرض برامجها وشروطها المتشدّدة من اجل مساعدة اللبنانيين ان ارادوا إنقاذ بلدهم لا عروشهم، ولا مواقعهم، الى ان بلغنا مرحلة الإهمال العربي والحصار الغربي، في انتظار ان يصلح اللبنانيون اوضاعهم بقرارات جريئة وحاسمة رُسمت خطوطها العريضة في وثائق وتفاهمات بقيت حبرًا على ورق.
لا يرغب بعض الغيارى على استقرار الوضع في لبنان وحماية سلمه الاهلي وأمنه الاقليمي، بالعودة الى تلك المرحلة، رغم ما يملكه هذا البعض من معلومات باح بها ضمن الجدران الأربعة مع مسؤولين كبار التقاهم. ولا يخفي احدهم القول، انّه فوجئ بإداء مغاير لمسؤولين في مواقع حساسة، عندما تجاهل ما كان يجب او يمكن ان يقوم أو يبشّر ويرشد به. ونُقل عن احد زوار احدى العواصم الكبرى، انّه سمع كلامًا كبيرًا وخطيرًا في لقاءاته مع مراجع مالية ونقدية دولية، لم يتجرأ على نقلها الى المسؤولين في لبنان.
ولم يطل الوقت حتى سمعها الجميع من افواه هؤلاء المسؤولين، في تصريحات أظهرت مدى فهمهم للحقائق المرّة التي تجاهلها او اهملها اللبنانيون او أُخفيت عنهم في معظم الحالات. وبدلاً من التزام المسؤولين بمضمون هذه النصائح والملاحظات تقديراً لمخاطرها واحترامًا لجدّيتها، من خلال اتخاذ المبادرة المطلوبة في اكثر من قطاع حيوي وخدماتي يمسّ اللبنانيين في حياتهم اليومية، انقلب على نفسه واتهم البعض منهم بالتدخّل في الشؤون الداخلية اللبنانية بلا وجه حق.
لا يتسع المقال للأمثلة التي تثبت هذه الوقائع والحقائق، التي عليها يمكن بناء كثير من الإجراءات القاسية التي يمكن اتخاذها في حق من ارتكب الجرائم بالجملة والمفرق، ان بلغ لبنان مرحلة المحاسبة ومحاكمة الفاسدين وتطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة والشفافية في التعاطي مع اللبنانيين، بدل التلهي بالإتهامات المتبادلة التي تضيّع المسؤوليات وتخفي المجرمين الحقيقيين. وطبقاً لهذا الواقع، سُمع أحدهم ممن يتهيّب ما يمكن ان يأتي به المستقبل وما تصيبه من الشظايا، يقول لأعضاء بعثة صندوق النقد الدولي التي بدأت مهمتها في لبنان بالمجاز الذي يتحمّل اكثر من وجه وتفسير على قاعدة «تعا ولا تجي».