وجّه رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري والمنضم حديثا إلى صفوف المعارضة، سهام نقده واتهاماته لمنافسيه السياسيين بدفع البلاد نحو الانهيار. كلمة جاءت بمناسبة إحياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل رفيق الحريري، راح خلالها الحريري الابن يصوّب نقدا لاذعا ويشعل السفن وراءه ويقطع العهد مع الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، ما يفهم من أن تمرّد الحريري على “العونية السياسية” يعيده إلى التسليم بأن سياسة لبنان المحكوم بقبضة “دويلة” حزب الله باتت جزءا من نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط.
حين كان يشغل منصب رئيس الحكومة قبل أشهر، خرج الرئيس سعد الحريري بترياق يتيح له ولبنان التنصل من مسؤولية مواجهة حزب الله. قال الرجل في الولايات المتحدة، وردد ذلك في زيارة خليجية، إن سلاح حزب الله “شأن إقليمي” وليس شأنًا محليا لبنانيا. في ذلك وجاهة قد يكتشفها محلل سياسي، لكنها ليست كذلك حين يدافع عن هذا السلاح رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل، وليست كذلك حين تصدر عن رئيس السلطة التنفيذية التي تضخمت صلاحياتها وفق اتفاق الطائف.
غير أن الحريري لا يملك إلا أن يبشر بإقليمية فائض السلاح. يمتلك السلاح وفائضه حزب ممثل داخل مجلس النواب ويحتل مقاعد داخل حكومته. وفق تلك المطالعة، أطل الحريري على الأميركيين والأوروبيين والخليجيين، مسوّقا ضعف البلد أمام قوة الأمر الواقع، وربما ساعيا إلى استفزاز رد فعل يوفر جواباً خارجيا من سلاح يحمل مفاتيح عقدته هذا الخارج.
وفق التسليم بفائض القوة والخضوع لها، تسير أبجديات العمل الحكومي في لبنان. ولئن كان أمر ذلك جليا داخل الحكومات السابقة، لاسيما حكومتي الحريري السابقتين في عهد عون، فإن الحكومة الحالية هي نتاج دقيق لسطوة ذلك السلاح الذي يسلم الحريري وجل المكونات السياسية بأنه بات عضويا نهائيا في تركيبة لبنان الراهنة. على أساس تلك المسلمة بنى الحريري خطابه في احتفال إحياء ذكرى اغتيال والده قبل 15 عاماً.
وعلى أساس ذلك الأصل، راح الحريري يصوّب على الفرع مشعلا السفن وراءه وقاطعا حبل الود مع العهد، برئيسيه، رئيس الأصل ورئيس الظل.
صفق الجمع كثيراً على هذا الغمز وذاك اللمز الذي طال عون وباسيل. بدا أن زعيم المستقبل يستدرج عطف بيئة شعبية لطالما نظرت بعين بائسة إلى تلك التفاهمات الخلفية التي عقدت داخل غرف سوداء. جرى التواطؤ لرسم تسوية ملتبسة التحقت بالتسوية التي أبرمها سمير جعجع على رأس “القوات اللبنانية” لانتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية. بيد أن “العونية السياسية” ليست نتاج دينامية ذاتية خارقة للمنطق والمعقول، بل عصارة خارطة طريق خبيثة حاكتها شخصيات مسيحية قريبة من دمشق حضرت عودة ميشال عون من منفاه في فرنسا. لم يكن حزب الله آنذاك بعيدا عما يحاك، وبالتالي نهل عون وصهره وتياره كثيراً مما أخفته خارطة طريق عودة “الجنرال منقذ المسيحيين”.
حين وقّع عون وأمين عام حزب الله حسن نصرالله وثيقة التفاهم الشهيرة عام 2006، ظهر أن العونية في قوتها ووهجها وعنادها تستمد ديناميتها من “فائض سلاح” إقليمي بامتياز.
لم تكن لتلك العونية أن تحظى بسطوتها لو لم يكن حزب الله حاضنا وحاميا وداعما وملبيا لطموحاتها. لم يكن حزب الله يرد للعونية الوفاء، بل إنه لم يكن أمام تلك العونية إلا التقيد حرفيا، وبكل دقة، بتفاصيل أجندة الحزب ورغباته. تحول عون وتياره، وفق ذلك، إلى قوة ضاربة في يد الحزب يستخدمها في احتلال وسط بيروت وشن غزوة 7 أيار وإقفال البرلمان وتعطيل الحكومة ونحت قانون انتخابات والتوجه إلى المنابر الدولية للبننة “المقاومة” وجعلها سلعة دستورية يسوقها رئيس البلاد.
لم يكن لعون أن يشترط توزير صهره باسيل للإفراج عن أي تشكيلة حكومية، لولا هذا الدعم غير المشروط الذي يقدمه حزب الله بلا حرج ولا تردد. ولم يكن لباسيل بعد ذلك أن يفرض على الحكومات إرادته وتقلباته، لولا موقف الحزب الداعم للصهر المدلل، وهو الذي يقوم بواجباته تماما، كوزير لخارجية البلد، يدافع عن الحزب وسلاحه ويتخذ مواقف في سياسة لبنان الخارجية لا تتعارض مع تلك التي تخرجها الأفران الإيرانية في طهران.
على هذا فإن العونية ليست أصلا بل فرع يصدر عن أصل. وعلى هذا أيضا فإن تصويب الحريرية السياسية على عون بجرعات مدروسة وعلى باسيل بجرعات “ذهبت إلى بعيد”، وفق تغريدة باسيل المستنكرة، لا يعدو كونه تمرينا مشهديا يصفق له الأنصار دون أن يشكل تحولا بنيويا في الروحية التي قادت إلى العبور نحو التسوية الرئاسية السيئة الذكر.
والحال أن فتح معركة ضد العونية السياسية لن يكون إلا جلبة لتقطيع الوقت بانتظار جلاء الشأن الإقليمي الذي قد يجد علاجا لسلاح حزب الله، وفق تعويل الحريري. والحال أيضا أن مطالعة زعيم المستقبل التي كادت تبرّئ الحزب من إثم ما وصلت إليه البلاد، قد تؤكد أن التيار وزعيمه ما زالا يقرّان بأن دويلة حزب الله تحكم دولة لبنان وتتحكم في خرائط من يريد العمل في السياسة، سواء كان مواليا للسلطة ومنخرطا في حكومتها، أو قافزا نحو معارضتها.
وعلى هذا فإن خطاب الحريري يستند على مسلّمة أن لبنان جزء من نفوذ إيران في المنطقة، لا بل إن خطاب الانقلاب على التسوية والعونية يؤكد التمسك بعقيدة “ربط النزاع” التي تعترف في ثناياها للحزب بحرية العمل المطلق في الأمن والسياسة والعسكر دون أي اعتراض أو حتى تبرّم.
على أن “النأي بالنفس”، الذي استعاره الحريري من مفهوم ينسب إلى رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي لتوجيه بوصلة لبنان داخل عهد البراكين في المنطقة، تحول بين ليلة وضحاها إلى تقية تدفن الرؤوس داخلها لتبرير تعايش الدولة وحكومتها مع الدويلة وحزبها. وقد كان خبيثا تواطؤ لبنان ونخبه السياسية على التمسك بشعار “النأي بالنفس” فيما هو شعار مناوئ لدستور البلد و”طائفه” الشهير.
لبنان بلد عربي وهو جزء أصيل من بيئته العربية ونظمها السياسية. فلا نأي بالنفس للبلد حين يستعر الخلاف بين العرب وإيران أو بين العرب وإسرائيل وبين العرب وتركيا وأي بلد آخر. لم يكن نزيها أن يُخيّر اللبنانيون بين العلاقة مع إيران والعلاقة مع العرب، ولم يكن إلا خبيثا ذلك الصمت الذي أمعنت فيه حكومات العهد في النأي بالنفس عن مواقف لطالما خرجت صريحة من دول خليجية وعربية وأجنبية تجاهر بإدانة حكم الميليشيا. ولم يكن من الفطنة ألا يعلن أصحاب “النأي بالنفس” أن انهيار لبنان ماليا واقتصاديا ومصرفيا، والذي للإدارة الداخلية والفساد مسؤولية كبرى في حصوله، هو حصيلة طبيعية متوقعة لحكم الدويلة وميليشياتها ووقع أمرهما على واقع أفسد علاقة مصارف البلد مع العالم وأفسد علاقة العالم برمته مع لبنان.
المعادلة بسيطة، حين يزول أصل العلة فلن نجد فرعها.