يعرف الجميع، بمن فيهم «حزب الله»، أنّ «مشورة» صندوق النقد الدولي ليست مجرد نصيحة «إبن حلال» يمكن الأخذ بها أو إهمالها. إنّها، في ذاتها، برنامج متكامل لإعادة الهيكلة والجدولة. فليس ممكناً تقديم المساعدة التقنية إلّا بناءً على سياق متكامل من المعلومات والمعطيات والوقائع والتوقعات.
وسيكون على لبنان أن يلتزم «المشورة» اضطرارياً. وهذا يعني أنّ الصندوق سيدخل سريعاً في عمق الأزمة والمعالجات، وسيقول رأيه في الشاردة والواردة، وعلى لبنان أن يتعاطى بإيجابية مع الصندوق، لأنّ المؤسسات والجهات الداعمة الأخرى، من البنك الدولي إلى الأوروبيين فالخليجيين العرب، ستعتبر أي إشارة سلبية من لبنان تجاه «مشورة» الصندوق مبرِّراً كافياً للإصرار على رفض الإصلاح، وتالياً للردّ عليها بمزيد من الحصار في مجال المساعدات.
لذلك، ستكون حكومة الرئيس حسّان دياب أمام استحقاق دقيق: هل توافق على البنود التي سيدعو الصندوق إلى تبنّيها، والتي يعترض عليها «حزب الله»، لأنها تمسّ به وبتمويله ونفوذه وبهامش حركته اللوجستية، أي بمصيره؟ مثلاً:
- كيف سيتعاطى «الحزب» مع خيار الخصخصة الذي يَنظر إليه بعين الشك، بصفته مدخلاً إلى السيطرة الأجنبية على مرافق البلد ومقدراته، وتالياً على قراره السياسي؟
- كيف سيتعاطى مع متطلبات هيكلة القطاعين المالي والمصرفي في اللحظة التي يستعدّ فيها الأميركيون وحلفاؤهم لتشديد عقوباتهم على مصادر تمويل «حزب الله»؟
- كيف سيتعاطى مع مقتضيات مراقبة المعابر الشرعية وغير الشرعية، برّاً وبحراً وجوّاً، لمنع التهريب الذي يساهم في ضرب الاقتصاد ومالية الدولة؟
- كيف سيتعاطى مع النتائج السياسية المفترضة، والتي ستكون ثمرة الإصلاح السياسي، وربما تقود إلى تغيير الطبقة السياسية التي يتشارك معها السلطة؟
يخشى بعض المحللين أن تشهد المرحلة المقبلة صِداماً بين «حزب الله» وخطة الصندوق. فهل يقع هذا الصدام مع الصندوق نفسه أو مع بعض الحكومة؟ وإذا حصل الصدام، هل يمكن أن يتحمَّل «الحزب» تبعات إضاعة الفرصة الوحيدة المتاحة للإنقاذ- ولو كان مريراً- فيسقط لبنان في هاويةٍ لا قعر لها، وكيف سيبرِّر ذلك للبنانيين؟
الجميع يترقبون ما سيكون عليه موقف «الحزب» عندما يَطرح الصندوق برامجه الإصلاحية الدقيقة، مالياً ومصرفياً وإدارياً واقتصادياً وتنموياً، ويطلب تنفيذها تحت إشرافه المباشر. وإذا كانت القوى السياسية «التقليدية» التي انتفعت دائماً من الفساد لا تتمتع بهامش كافٍ للرفض، فهل سيخضع «حزب الله» لهذه البرامج، بما يمتلك من أوراق قوة محلية وإقليمية؟
يخشى «الحزب» أن يخوض نزاعاً سياسياً مع الصندوق. فهو يعتبر أنّ الكلمة النافذة فيه تعود إلى الولايات المتحدة التي تمارس اليوم أقصى الضغوط لإضعاف إيران وأجنحتها الشرق أوسطية، ومنها لبنان. وفي تقديره، أنّ واشنطن تمسك بأوراق تسعى من خلالها إلى التضييق على «الحزب» تحت وطأة الانهيار المالي والاقتصادي.
وثمة من يرتقب استحقاقات عدّة سيواجهها لبنان و»الحزب» في المرحلة المقبلة: المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية لتحريك ملف الغاز والنفط، مدى الدعم الأميركي للقوى العسكرية والأمنية، توسيع العقوبات الأميركية لتشمل مزيداً من الشخصيات اللبنانية.
فالمناخ الإقليمي - الدولي يثير مخاوف «الحزب»، خصوصاً بعد اغتيال قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني، والكلام على دور متزايد لـ«الحزب» في العراق، خلال هذه المرحلة. لكن الأهم هو التصعيد الإسرائيلي الذي عبَّر عنه وزير الأمن نفتالي بينيت، عندما هدّد بقصف كل شحنات السلاح الإيراني العابرة إلى لبنان، فيما تعود إلى الواجهة باستمرار مسألة امتلاك «الحزب» صواريخ دقيقة.
يخوض «الحزب» معركته بعدما أدّت الكارثة المالية والاقتصادية إلى إضعاف لبنان. فالقوى السياسية تمادت في إضاعة فرصٍ كانت ستبعد لبنان عن المساومات الخارجية. ونتيجة لذلك، بات الأميركيون والفرنسيون والعرب اليوم شركاء في الضغوط على «الحزب» وشركائه في السلطة، ولو بأساليب ودرجات متفاوتة.
وعلى مدى العامين الفائتين، أضاع الشركاء في السلطة فرصة الإصلاح بعد مؤتمر «سيدر» 2018. وبعد انتفاضة 17 تشرين الأول، أضاعوا فرصة إنتاج الحلّ بإرادة محض لبنانية وبصفقةٍ مباشرة بين الأقوياء في السلطة والشعب.
ولذلك، حصل ما كان متوقعاً: تلاشت تدريجاً فرصُ الحلّ اللبناني- اللبناني، وباتت اللبننة مستحيلة والإنقاذ في يد القوى الخارجية كلياً. وتصحيح الوضع ممكن فقط برضوخ قوى السلطة لمتطلبات الإصلاح الحقيقية. وهذا لا يبدو وارداً.
إذاً، في ظل مخاطر صدامه مع صندوق النقد ورمزيته السياسية، سيحاول «حزب الله» أن يبتكر المخارج الفائقة الصعوبة. وهو يحاول التوفيق بين التزامه المطلق بالتحالف مع إيران، وإبعاد لبنان عن نزاع المحاور الإقليمية. وقد عبَّر عن ذلك أمينه العام السيد حسن نصرالله أخيراً. وسيحاول «الحزب» الاستعانة بالقوى الوسيطة، ولا سيما منها الأوروبيين، لعلها تقلّص من وقع الصدمة.
وقد جاءت زيارة رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني لبيروت وكأنّها تُستلحق خلط الأوراق السياسي وتتدارك المتغيّرات المحتملة. ولكن، يبقى السؤال: أي خطة يحتفظ بها «حزب الله» لمواجهة المرحلة المقبلة من الحصار؟