يصف جلال الدين الخالق مالك الملك، بعالمه الموزون بلا نظير أو ثغرة أو هفوة، ويقول إن هذا الخالق يعشق المخلوق الساعي في هذا العالم الموزون إلى إيجاد التوازن في نفسه.
دائماً ما يُلهمني شعر مولانا جلال الدين محمد البلخي (وليس الرومي، نسبة إلى مسقط رأسه وموطنه، بلخ، مدينة في أفغانستان اليوم، بلاد فارس سابقاً، حيث ولد جلال الدين، لا بلاد الروم)، فآخذ منه العبر والسلوكيات، فأنا مريد له، وليس بالمعنى الذي يلجأ إليه مفسرو المعتزلة، بل المريد أن يتبع ما في نهجه من سلوك يوصله إلى مُراده، الحق المبين والحقيقة المطلقة.
كثيرون يذمون جلال الدين، ويعتبرونه صوفياً ضالاً ومنحرفاً عن تعاليم الدين وإلى ما هنالك من توصيفات، وعزز لديهم هذا الرأي الترجمات المحرفة الكثيرة، والكتب والروايات التي تستمد، أو تستلهم من جلال الدين، وهي في الواقع تختلق وتحرف.
المشكلة هي في الذين أمسكوا طرفاً من الدين وتشبثوا به وتمنّعوا عن الطرف الآخر. يعني الذين تمسكوا بظواهر الدين، وتمنّعوا عن الجوهر، والذين تمسكوا بطرف العذاب وأهملوا طرف الرحمة، فما عرفوا الله حق معرفة.
من جماليات شعر مولانا، الذي تطرّق إلى حالات معنوية بالغة، وسلوك وسير ومراقبة، وفهم عميق للدين والقرآن، ويشهد على ذلك كتابه المثنوي المعنوي، الذي قال فيه السيد علي الخامنئي: "أصل أصل أصل الدين"، نظراً لقيمته وما يحويه من قصص قرآنية وعبر.
ويحتاج هذا الكتاب لمجلدات كبرى لتفسيره، بما هو ليس بالمقدور، ولكن بما استطعنا عليه من شعره في ديوان شمس، غرفنا غرفة من هذا البحر.
وددت في هذا السياق إظهار بعضاً من الجماليات في السلوكيات الموضوعة في شعر جلال الدين، في ما يختص بواقع أيامنا هذه التي تدور كلها في فلك الاقتصاد وجني المال.
هذا البيت من الغزل 1400 في ديوان شمس، لمولانا:
"آن شهِ موزونِ جهان، عاشقِ موزون طلبد
شد رخِ من سکه یِ زر، تا که به میزان برسم"
حيث يصف جلال الدين الخالق مالك الملك، بعالمه الموزون بلا نظير أو ثغرة أو هفوة، ويقول إن هذا الخالق يعشق المخلوق الساعي في هذا العالم الموزون إلى إيجاد التوازن في نفسه. أي أن يسعى الإنسان ويجهد ويصقل هذه الروح كي يصل للورع والتقوى، الحال المثلى، للملقى.
ويضيف أكثر من ذلك، قائلاً: "خُذ روحي من هذه الدنيا، ووجهي شاحبٌ مُصفرّ كلون قطعة الذهب". وفي هذا الوصف، بغير ما هو ظاهر في الشكل، ما هو في جوهر الكلام، أي أنه يريد الذهاب من هذه الدنيا بجسد ضعيف واهنٍ لم تُملأ له بطن من مال سُحت، وربا وحرام. وهنا إشارة أيضاً إلى البعد الفقهي والشرعي، حيث أن أكل مال السُحت والتوبة عنه، يستوجب إذابة كل شحم ولحم نما بذلك المال.
وعرضت الأحاديث، ما هو أشبه بواقع اليوم، حيث نرى الكثير ممن هم في سدة المناصب والحكم، يأتون ويذهبون ويتصرفون بالمال، من دون تفكر أو سؤال. وبالطبع هؤلاء، المنغمسون في غفلة المادية، لن يفهموا ولن يدركوا لا بشعرٍ ولا بحديث ولا بآية، وإن صح القول فهؤلاء هم منعدمو البصيرة والذين جُعل على بصرهم غشاوة.
هذه الغشاوة، هي حب المنصب والمال والجاه، الذين غرروا بهم فأنزلوهم ادنى منزلة، عكس ما هم يظنون بمنزلتهم في الدنيا، فمنزلتهم في الآخرة شيء آخر. وكل المال وعشم المنصب الذي جمعوه وكانوا يسعون إليه، ليس سوى حطب أعدوه لهشيم آخرتهم، إلا ما رحم ربي، ومن اتسعتهم رحمته مع كل ما حصد من حرام، طبعًا بعد توبة نصوحة.