د. إبراهيم خليل
لا جدال في أن النقد الذي يكتبه الشعراء عن تجارب غيرهم من محترفي القريض يلقي الضوء على تجاربهم هُمْ مثلما يلقي به على تجارب الآخرين. ومن الشعراء الذين أسهموا في حياتنا الأدبية بجهودهم النقدية، ودراساتهم، وتأثيرهم، الشاعر علي جعفر العلاق، الذي صدرت له كتبٌ عدة في هذا، منها كتاب «مملكة الغجر» 1981 ودماء القصيدة الحديثة 1988 وكتاب «في حداثة النص الشعري» 1990 و الشعر والتلقي 2002 والدلالة المرئية 2002 و»ها هي الغابة فأين الأشجار؟» 2007 وقبيلة من الأنهار 2008 و من نص الأسطورة إلى أسطورة النص 2010 وفي مديح النصوص 2013 والحلم والوهم والقصيدة 2018 وأخيرا « المعنى المراوغ- قراءات في شعرية النص « (فضاءات 2019) ولكتابه الأخير هذا مزية على كتبه الأخرى، ففيه دراساتٌ تسلط الضوء على شعرية النص لدى عدد من الشعراء النابهين، في مقدمتهم جبرا إبراهيم جبرا، وبدر شاكر السياب، وسركون بولص، ومحمد عفيفي مطر، وأمجد ناصر(يحيى النميري) والشاعر محمّد مهدي الجواهري، وأخيرا اليمني عبد الله البردُّوني. فباستثناء جبرا غلبت على الآخرين أنهم شعراء لا ناثرون. بعضهم يتسنَّم ذرى الحداثة، وبعضهم يعتصمُ بذرى الأصالة والتقليد، فهو إلى النمط الكلاسيكي المجدِّد أقرب منه إلى الحديث، كعبدالله البردوني، والجواهري.
الموْسوعيُّ شاعِرًا
والملاحظ أن المؤلف في تناوله لجبرا (1926- 1994) منحازٌ إلى الشعر، يتجلى ذلك في تركيزه على صلة جبرا به، وعلى كون ترجماته ذات علاقة وطيدة بالشعر، وبالأسطورة. ولا يخلو هذا الفصل من رسائل يبثها المؤلف من حين لآخر تؤكد هذا. فعلى المستوى الإنساني يمثل جبرا – في رأيه- الشاعرية الحقة في مظهرها الخلاب، وإهابها الجذّاب، فهو مثالُ المثقَّف الجامع لأنواع من الفنون، ففي الشعر شاعر بل رائد قصيدة النثر(1)، وفي الفن رسامٌ، بل رائد لجماعة الفن الحديث، وفي الموسيقى خبير لا تعوزه المعرفة في هذا المجال، حتى لييمكن عدهُ- بمعنى من المعاني- موسيقيًا متذوّقًا أعذب الألحان، ملما بأكثر المؤلفات الموسيقية الكلاسيكية. وهو إلى ذلك من خيرة المترجمين الذين لا يترجمون ما هبَّ ودبّ، ولكنهم يختارون من الكتب ما ينفع الناس، ويمكُثُ في الأرض. فترجمته لأجزاء من « الغصن الذهبي « لجيمس فريزر، وترجمته لمقالات الأسطورة والرمز، والأديب وصناعته، وقلعة إكسل، وما قبل الفلسفة، وغيرها من تراجيديات شكسبير وسونيتاته، ترجماتٌ أسْهمت بصورة لافتةٍ في دفع التيار الحداثي في الشعر العربي دفعة قوية إلى الأمام، وابتنى بها جسرًا قويًا صلبًا بين الشعر العربي والشعر الغربي، فكانت له آثاره الجليّة في الكثير من الاتجاهات الأدبية المعاصرة.
شعريَّة الألم
ومع أنَّ هذا الفصل لا يخلو من نفثاتٍ عاطفية حميمة تجاه جبرا، وعلاقته بلميعة العسكري، وحكاية الحبّ اللاهب الذي جمع بين الزوجين، أو حيال منزله الذي جرى تفجيره في أثناء الحرب، إلا أن هذه النفثات المؤثرة تختفي من الفصل الخاص بالشاعر بدر شاكر السياب (1926- 1964) الذي مرَّ شعره في مراحل ثلاث على رأي العلاق. الأولى هي التي خضع فيها شعره لإملاءات إيديولوجية اقتربَ منها الشاعر، وآمن بها إيمانا شديدًا، فكانت قصائده تستجيب فيها لما سماه اللحظة الواقعية؟ وهو، بلا ريب، يعني بها شعره الذي غلبت عليه الخطابية، وترديد الشعارات الحماسية، والثورية، وهو شعرٌ يغيب عنه غيابًا لافتًا للنظر التشكيلُ الجماليُّ الذي نجده في شعر المرحلة الثانية، تلك المرحلة التي تخلى فيها السياب عن الشيوعيين، وأسلَمَ قياده لربَّة شعره لتغدو القصيدة من بعُدُ نصًا كثيفًا لا يفصح عن موضوعه ولا يشفّ، ولا ينبئ عن أفكاره مباشرةً، ولا تُرى من خلاله معانيه، بل تستوقفنا بنيتُه الحسيّةُ الثاقبةُ، وتجلياتُ الأداء. (ص26) فهذه القصائد شهدتْ محاولاته الدائبةَ لنقل الشعر العربي مما كان عليه من تقليدٍ، وترديدٍ، إلى أفق حداثي جديد، تهيمن عليه الثورة المجازية، والإيقاعيِّة، والإيماءاتُ، وتوظيفُ الأساطير من بابليةٍ، وإغريقيَّة .
ويشير العلاقُ لقصائدَ، منها: النهر والموت، وغريب على الخليج، وأنشودة المطر، وغيرها من قصائد.. تمثل ذروة عطائه الإبداعيِّ، لكن المرحلة التالية شهدت انشطار السياب بين شاعر عاشقٍ يتسنَّمُ الذرى، وشاعر مريض يتشهّى الموتَ ليتحرَّرَ من سورة الألم، لذا غلَبَتْ على شعره هشاشة النص إلى جانب هشاشة الذات. وهذه القصائد تمثلُ في رأي العلاق انتكاسَةً موازية لانتكاسته على المستوى البيولوجي. فشعرُه – في هذه المرحلة – يحافظ على مستواهُ بقوة المعنى المباشر، لا بقوة التشكيل الجماليّ، وبضغوطِ الحاجةِ للآخر، لا بضغوط المخيَّلة الخلاقة، وبصُراخ الكائن المقهور، الأعْزل، المبْتَلى بصدود المحبّين، الملتفت لماضيه المليء بالخيبة، لا لحاضره الذي أعْيا به الداءُ، وعزَّ عليه فيه الدواءُ، فضلا عن الشفاء.(ص44)
وعلى الرغم من أنَّ هذه الرؤية لشِعْر السياب لا تخلو من بعض الحقائق التي تسوِّغُ للعلاق الانتقاص من قيمتها الإبداعيَّة بطريقة موارَبَة، إلا أنَّ في هذا ما يدعو لإعادة النَظَر. فالشعر الذي يُسْتوحى من ذرْوة الألم، معبّرا بقوة عن هاتيك المعاناة، فيه الكثيرُ مما يُغني عن مظاهر التشكيل الجماليِّ الحداثيّ. فنَحْن لا نتَّفق مع أولئك الذين يلحّون، ويكرِّرونَ الإلحاحَ، على أنّ مزية الشعر الفائق تقاس بمقدار ما فيه من تشكيلات مجازيةٍ، ورمزيةٍ، أسطوريةٍ، ومن رؤى يحتاج التواصُل معها إلى التأويل، والقراءة المنْجِزَة. فالشعرُ، بتعبيره عن الألم تعبيرًا قويًا، أو عن الحبّ، أو الغضب، شعرٌ رائعٌ، في رأينا، حتى وإنْ خلا خلوًّا تامًا، أو شبه تام، من المجاز، والاستعارة، والصُوَر الجديدة المبتكرة. والأمثلة التي ساقها العلاق من شعر المرحلة الثالثة في هذا الفصل حجَّة للسيّاب، لا عليه، يقول:
«فأين أبي وأمي .. أين جدي . أين آبائي/ لقد كتبوا أساميهم على الماء/ ولست براغبٍ حتى بخط اسمي على الماء/ وداعا يا صحابي يا أحبّائي/ إذا ما شئتموا أن تذكروني، فاذكروني ذات قمْراءِ/ وإلا فهو محضُ اسم تبدَّدَ بين أسماء
وداعا يا أحبّائي!».
فهذا الشعرُ، وإن جاءَ الجانب المجازيُّ فيه قليلا، نادرًا، إلا أنه شعْرٌ ينفذ في الروح لما فيه من تعبير ريِّق عن إحساس عميق بالألم، والرعب من أن الشاعر سيفارق أحبته، وقد ينسون ذكرهُ، طال الزمانُ أم قصر. والعلاق يبدو محقًّا في إلحاحه على شروط الكتابة الصعبة، وضرورة أن تتمدد القصيدة داخل العملية التخييلية، لا خارجها، في إطار موصول من الصقْل المتمهِّل، الذي لا يكتفي باللحظة الحياتية المفعمة بالندم، والمتفجِّرةِ بالشَكْوى (ص45). إلا أن تغييب هذه الاشتراطات عن بعض الشعر، لا يعني بالضرورة ضعْفَهُ، أو فَسادَه.
التمرُّد الإيروتيكيّ
وقد هيمنت على العلاق، في هذا الكتاب، فكرة الثنائية المتكررة في شعر سركون بولص1944- 2007- أحد رواد قصيدة النثر في العراق- فهو يتتبَّع ما فيه من صوَرٍ بالغة الثراء، والغِنى(ص53)، لا سيما تعبيره القوي عن الهامشيِّ، والعابر، (ص54) وعن نزوعه الإيروتيكي للتمرُّد (ص57) في قصيدة يونس وبئر الأرملة خاصة. وقد تقصَّى في هذا الفصل شاعرية بولص في جل دواوينه، وهذه مزية لا نجدها في سائر الفصول. فنحن نفتقد هذه النظرة الشمولية الاستقصائية في دراسته لتجربة محمد عفيفي مطر(2)(1935- 2010) الذي اقتصر على تناول ديوانه الأخير « ملكوتُ عبد الله «( 2015). وهو ديوان عدل فيه الشاعر من الغنائي إلى السردي في كثير من النصوص، مما يوحي لبعض المتابعين- ومنهم العلاق - أنه سيرة الشاعر عبَّر عنها في لقطاتٍ أطلق على بعضها اسم طرديات، وعلى بعضها الآخر اسم رعويات (ص73). وهذه القسمة أوحت للدارس بفكرة تتبُّع الحدث الشعري في الرعويات، بما ينطوي عليه من سردياتٍ، مؤكدًا أن في بعضها، ولا سيما رعوية الفتى الغريق، نسقاً مضمرًا مستمدًا من حكاية يوسف الصديق، وإخوته، والبئْر، والذئب.(ص78- 79) وقد عزا العلاقُ هذا النسق لهيمنة هذا الجانب على شَطْرٍ من حياة الشاعر (مطر) السياسيَّة، والفكريَّة، دفعتْ به في ثمانينات القرن الماضي للتقوْقُع في إطار من الإهمال القاسي، والمكابَدَة(ص81).
القصيدةُ المُغايرَة
وعلى الرغم من أن المؤلف أفرد فصلا مطوَّلا لدراسة تجربة أمجد ناصر (1955- 2019) الشعرية (87- 108) إلا أنها دراسة تقتصر على ديوان واحد من عطائه الثر، وهو « شقائق نُعمانِ الحيرَة « الصادر عام 2016.مع ذلك يشير لبداياته في رعاة العزلة، ومديح لمقهى آخر، مؤكدًا انطلاق هذا الشاعر من الحاضنة الإيقاعية الرصينة المستندة إلى وعي بالموسيقى الشعرية، وإدراك جيد لبنية النص الشعري(3). وتلك مزيَّة لفتَتْ إليه الأنظار (ص88). فقد نوه كلٌّ من فاروق يوسف، وصبحي الحديدي، إلى ما في بداياته من نبرة مميزة. فكثيرًا ما يعلق الوزن بصياغاته النثرية في منأى عن وطأة النظم المتكلف. فهو وزن ذو اختراقات كثيفة تجعل من القصيدة مراوحة بين الوزن واللا وزن (ص89). أيْ أن قصيدته في هذه الحال مبرأة من العماء الموسيقي. ولدى العلاق ولعٌ، وشغفٌ بالأنوثة، ينمُّ على ذلك تتبُّعه في أثناء تناوله لشعر أمجد ناصر لاحتفاء هذا الشاعر بالجسد الأنثوي، ولا سيما في قصيدتيه: وردة الدانتيلا السوداء(ص91)، و أنفاس الهايكو(ص92). ولا يفتأ يتتبع اللون أيضا في قصيدة تعزيم موازنا بينها وبين قصيدة « ضدَّ مَنْ « لأمل دنقل، متوقفا وقفة متأنية حيال شعرية المكان، وكعادته لا بد من موازنة بين شيء وآخر، فهو- ها هنا - يوازن بين شعرية المكان لدى أمجد ناصر وسركون بولص. ويلَذُّ للقارئ ما يتضمنه هذا الفصل من عرض شيق، وريّق، للبعد الدرامي في قصيدة الشاعر الموسومة بعنوان فتاة مقهى كوستا(ص101- 107) التي تعدُّ في نظره قصيدة مغايرة، قصيدة تمردت على استراتيجيات المبدع نفسه، فهي عمل إبداعي حرٌّ ثار على نوايا الشاعر، وبرمجته للنصّ، واختار النصُ أنْ يكتب نفسه بنفسه بتعبير رولان بارط.
بعضُ الإنصاف
وقد يطولُ بنا الأمر لو أردنا الوقوف عند بقية فصول الكتاب، فنتجاوز حدود الرقعة المتاحة لهذا العرض،كالفصل الذي يتناول فيه ظاهرة الغضب والقسوة في شعر الجواهري (1899- 1997). أو الفصل الموسوم بلطائف القصيدة عند اليمني عبدالله البردوني(1929- 1999). ولا يفوتنا، مع هذا الاختصار، الذي يرقى إلى حد الاقتضاب والابْتِسار، التنويهُ - بصفة خاصة - لاحتفاء العلاق بهذين الشاعرين المفْلقَيْن. فهما شاعران من الجيل السابق. وبهذين الفصلين يثبت أنه غيْرُ مُنْحاز لاتجاه معيَّن، أو جيل محدَّدٍ، في الشعر، فلا يصدُق عليه، تبعًا لذلك، قولُ من قال: إن الشاعر الناقدَ لا يزاولُ النقد إلا ليدافع به عن مذهبه في الشعر، أو نهْجِهِ في القريض. فهو، مع اختلافه عن المحافظين ؛كالجواهري، والبردوني، لا يفوتُه أن يدرس شعرهما، ويشيد بهِ، إن سنحتْ له الفُرَصُ، وهذا جديرُ أن يعدَّ في الإنصاف، في عَصْر طغى فيه الحيْفُ والإجْحاف. وكتابُه « المعنى المراوغ « بما فيه من فُصول، ولا سيما فصلاه هذان، خير دليل على ذلك.
الهوامش
1. للمزيد عن شعر جبرا انظر كتابنا: جبرا إبراهيم جبرا الأديب الناقد، ط1، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001 ص ص 103- 127.
2. للمزيد انظر ما كتبناه عن الديوان ملكوت عبدالله في كتابنا اجتهادات نقدية، ط1، عمان: الألفية للنشر ، 2017 ص ص73- 80 .
3. للمزيد عن أمجد ناصر انظر كتابنا: ظلال وأصداء أندلسية في الأدب المعاصر، ط1، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2000، ص ص 73- 95 وانظر للمزيد كتابنا مقدمات لدراسة الحياة الأدبية في الأردن، ط1، عمان: دار الجوهرة، 2003 ص ص 31- 50 وانظر مقالتنا « أمجد ناصر والخروج من سلطة النظم إلى سلطة النص « مجلة نزوى، مسقط، ع17، يناير 1999 ص 231- 234.