الدبلوماسية، في أحد أهم وجوهها هي قول الشيء نفسه، بلغة أخرى. أو بالأحرى، فإنها لغتان. الأولى تقول الموقف بكل ما قد ينطوي عليه من خشونة ومراد، والثانية، تعيد صياغته ليبدو إيجابيا، وقابلا للإصغاء.
يسمح هذا الأمر بالكثير من المناورات. والمناورات جزء مهم من “الصنعة”. ولكنه يسمح، من ناحية أهم، بإتاحة الفرصة للطرف الآخر للتأمل أو التفاعل قبل الرفض. كما أنه يسمح بتحويل الموقف الصلب ليبدو مرنا، من دون أن يكون مرنا بالفعل.
الغاية، في النهاية، هي أن تحصل على ما تريد، أو أغلبه، وتقدّم أقل ما يمكنك تقديمه. بعبارة أخرى: أن تكسب العنب من دون أن تقتل الناطور. بل وأن تقول للناطور إن ما تأخذه من العنب مفيد له أكثر.
على امتداد عقود طويلة، تمتعت “دبلوماسياتنا” العربية، بموهبة التحدث بلغة الموقف. وعندما ترتفع الحرارة في القلوب، فإنها يمكن، بسهولة، أن تتحول إلى شعارات وتشنجات، وهذه الأخيرة إلى صراخ. وهذا مما لا يفيد أيّ قضية.
يُذكر مثالٌ من عالم النشر هو لا أكثر من مثال على الرفض باللغة الثانية للدبلوماسية. إذ تقدم أحدهم بكتاب، فجاءه الرد ليقول “إن كتابك فيه كل ما هو جديد ومفيد، إلا أن جديده غير مفيد، ومفيده غير جديد”. وكان ذلك بمثابة رفض واضح، ولكنه ليس كمثل القول “إن الكتاب مرفوض لأنه غير مفيد ولا جديد فيه”.
ويقال في السياسة “لا تقل لا أبدا”. وكان الزعيم الراحل ياسر عرفات يجمع بين اللا والنعم، فلا يعرف مُحاورُه ما هي الحدود بينهما، بينما هو يعرف.
الرفض المطلق، هو “لا” مطلقة. وهذا بعيد كليا عن اللغة الثانية للدبلوماسية. ولكن يجب الاعتراف في الوقت نفسه، أن “اللغة الثانية” ليست مقدسة، ولا هي بحد ذاتها هدف. لأن اللغة الأولى، أو لغة الموقف هي الهدف.
كان يمكن أن يظل كافيا لرفض “صفقة ترامب”، بطريقة مذهلة، أن يتقدم المعنيون بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، يتألف من فقرة واحدة، تقول “إن المجلس يؤكد تمسكه بمقررات الشرعية الدولية التي صادقت عليها الولايات المتحدة، ودعّمت تنفيذها، كما صادقت عليها كل الدول دائمة العضوية الأخرى”.
فقرة وحيدة كهذه، لن تقول حتى “نعم” لتلك “الصفقة” الظالمة. ولكنها تقول: لا صريحة، من دون أن تقولها بالفعل. ولسوف يكون من الصعب على الولايات المتحدة، وعلى الرئيس دونالد ترامب نفسه، أن يرفع ضدها الفيتو، لأنه سوف يبدو كمن يصفع نفسه، أو يهين التزامات سبق للولايات المتحدة أن تعهدت بها. وفي هذا رد كاف، لمن يصورون تلك “الصفقة” على أنها “صفعة”.
في حين أن أيّ صياغة أخرى، تُقابل بالفيتو، أو أيّ كلام زائد ليزيد الجدل، سيكون صفعة نصفعها نحن لأنفسنا، تعفي الولايات المتحدة من التزاماتها، أو توفّر لها مبررا للتخلي عنها.
القول لا، حق مشروع أيضا، لمن يرى في المعروض عليه ظلما. وهو حق مشروع حتى عندما لا تملك خيارات أخرى. فهي “لا” للتاريخ، بل للقول إن الضعف لا يغني عن الحق ولا يستبدله. ولكن المرء، وهو يقول لا، يتعيّن عليه أن يحسب الحساب للأفق المقبل، وأن يعدّ له ما استطاع لكي يوقف الظلم عند حد على الأقل. بمعنى أن نقول “لا” مرة، من دون أن نضطر لقولها مرة أخرى وأخرى. تكرار الـ”لا”، تكرار للضعف واستمراره، ودليل على عدم إجراء الحسابات الضرورية لقراءة الأفق.
السياسة رياضيات في نهاية المطاف. والمعادلات التي تتركب اليوم، على ظلم، يحسن أن يُعاد النظر فيها، لكي لا يتركّب عليها المزيد من الظلم.
القراءة الخاطئة للفرص والإمكانيات ليست مشكلة الظالم. إنها مشكلة المظلوم. ذلك أنه عندما يقوم بتركيب معادلاته على نحو لا يقرأ الزائد فيزيده، ثم لا يقرأ الناقص فيزيله، أو يقرأ الناقص على أنه زائد، أو لا يقرأ الأرقام من الأساس، ويكتفي بالشعارات، فإن “لاءه” التاريخية سوف تكون عملا من أعمال بناء متحف تاريخي للمواقف والحقوق الضائعة.
عندما نذهب إلى مجلس الأمن لكي نندد ونلعن ونحذر، فإننا نتصرف بقلب حار. هذا مفهوم. ولكنه تصرف لا عقل فيه ولا منطق ولا حساب. وسيكون أداة للأذى إذا ما قوبل بفيتو يمحو كل ما سبق من قرارات دولية نحاول أن نتكئ عليها.
وسيكون مسعى لا جدوى منه، حتى إذا صدر قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يؤكد الحقوق المشروعة للفلسطينيين. فهذه الحقوق تتآكل. والتزامات دول الجمعية العامة تتآكل معها. وذلك بما أن ما صدر عنها حفنة قرارات تكاد لا تعني شيئا من الناحية العملية.
ولكي لا يُساء الفهم، بالظن أن “صفقة ترامب” فرصة، يحسن ألا يُساء الفهم، بالظن أن الدبلوماسية ليست رياضيات.
إنها لغة ما يُقال بما لا يُقال. وبما أنها مناورة حول ما يكمن في الأفق، فإنها الأرقام من دون أرقام. كل ما دون ذلك، عُذرا، خبط عشواء في هراء الكلام؛ سباحة في حوضٍ بلا ماء.