لا جدوى من محاولات محمد توفيق علاوي إثبات عدم تبنّيه لسياسة النظام الإيراني في العراق في بحثه المُستميت للتقرّب من رغبات المنتفضين، وهو الذي ابتعد خلال بياناته عن ذكر إيران ونفوذها في العراق، ذلك لأن المنظومة السياسية الشيعية “سائرون والفتح” التي رشحته لم تقدم على خطوة التزكية هذه قبل حصولها على مباركة طهران.
غياب قاسم سليماني أربك البرامج الإيرانية في العراق، وأشعل التكهنات بشأن البديل الذي سيتسلم إدارة النفوذ الإيراني في العراق، ويجري الحديث عن شخصيات مثل حسن نصرالله ومقتدى الصدر، الذي ارتبكت أوراقه كثيرا. وفي كل الأحوال يبقى الدور هامشيا لأن القرارات الكبرى تبقي بيد خامنئي، الذي أعلن تصديه المطلق لانتفاضة العراق منذ اللحظات الأولى لانطلاقتها في أكتوبر الماضي والتي اعتبرها “أعمال شغب تديرها أميركا وإسرائيل ودول المنطقة” وهو لا ينقصه المنفذون المطيعون مثل علي أكبر ولايتي، الذي يعدّ من أهم المعبّرين عن سياسته الخارجية.
ولايتي قدّم “شهادة قاتلة” لمحمد علاوي حين وصفه قبل يومين بأنه “الرجل المحارب والشخص البارز نظيف اليد والمؤمن وسينال الثقة قريباً”. وهو يقصد هنا بالمؤمن أنه الملتزم بفروض الطاعة لولي الفقيه.
يعتقد ولايتي أن هذه الإشادة ستهيئ الأرضية السياسية لعلاوي وللقوى السياسية العراقية داخل البرلمان لتمرير ترشيحه، في تأكيد بأن لعبة مقتدى الصدر الإعلامية بالتلويح بعدم التصويت لمحمد علاوي بسبب لقاءاته بالمتظاهرين، لن تغيّر من القرار الإيراني. ولا بد أن الصدر يعلم ذلك لكنه يحاول التمسك بدوره المعتمد على تضليل الجمهور الشيعي الكادح، والذي احترقت معظم أوراقه بعد الجرائم التي ارتكبها أنصاره بحق المحتجين.
هناك مشكلة تعيشها جميع أطراف الطبقة السياسية الحاكمة في العراق بسبب انهيار فرص مواصلة منهج النظام السياسي القائم على النهب والفساد خاصة بعد إطلاق يد الميليشيات لقتل واختطاف منتفضي ثورة أكتوبر. وقد وصلوا إلى طريق مسدود لا تنفع معه المساومات الترقيعية التي يحاول محمد علاوي تقديمها.
هذه الطبقة لا تريد الاعتراف بأن الرفض الشعبي لنظامهم لا رجعة فيه، وأن الشعب لن يقبل إلا ببديل وطني مؤمن بالمواطنة ورافض للتبعية. لكنهم يواصلون مطاردة وهم أن أي ابتعاد شكلي عن العمل التنفيذي لن يخرجهم من استمرار التحكم بالدولة واستمرار سيادة ذات العقلية الإسلامية الشيعية التابعة لإيران.
إنهاء استباحة إيران للعراق ونفوذ المدمر لمقدراته عبر وكلائها من الميليشيات المسلحة هو العنوان الأبرز للانتفاضة العراقية المتواصلة، التي يختزلها تريد شعار “إيران برة برة بغداد تبقى حرة”.
مواصفات علاوي من الأساس لم تكن تلبي مطالب المنتفضين بالاستقلالية عن الطبقة السياسية الخاضعة لطهران وخاصة بسبب عدم وضوحه في الموقف من إيران، لكن الضربة القاتلة جاءت من شهادة ولايتي القاتلة، التي لم يعد تنفع معها عبارات علاوي، التي تلعب على معاناة الشعب وتعده بأوهام الإصلاح.
يحاول علاوي بغياء شديد النظر إلى الأزمة السياسية العراقية مثلما رآها سلفه عبدالمهدي، معتقدا أنها محصورة بالخدمات وتردي الأوضاع الاقتصادية، مع أنه حتى في هذا الجانب لن يكون قادرا على تقديم ما عجز عنه عبدالمهدي.
لقاءات محمد علاوي ببعض الوجوه من شباب الحراك، وما يتم تسريبه عن اختيار عدد منهم في الكابينة الوزارية، لاقت رفضا من مقتدى الصدر الذي يعتبر نفسه “والي الثورة” وهو الذي قتلت عناصره من ذوي “القبعات الزرق” العشرات منهم في النجف وكربلاء.
لا يزال الصدر يتوهم لأن تزكيته هي التي تحسم منصب رئاسة الحكومة، وهو يناور حاليا بين دعم ورفض ترشيح علاوي، الذي تجد فيه الطبقة السياسية الموالية لإيران طوق النجاة الأخير من أزمتها القاتلة التي وضعتها فيها انتفاضة الشباب.
قد يمرّر محمد علاوي مثلما تم تمرير عادل عبدالمهدي بذات التوافق في مصالح القوتين الرئيسيتين داخل البرلمان، لكن المشكلة أن ذلك الظرف مختلف جوهرياً عما حصل بعد أكتوبر. فقد جرت دماء عراقية زكية ولا بد أن تدفع ثمنها تلك القوى الحاكمة. لن يعود الشباب إلى بيوتهم، بل سيتضاعف إصرارهم على مطلبهم الواضح باختيار رئيس وزراء مستقل ينفذ أجندة التغيير بحل البرلمان والانتخابات المبكرة وفق قانون جديد.
أما وكلاء إيران فقد وصلوا إلى طريق مسدود بعد استخدامهم جميع وسائل القتل والاختطافات للناشطين وتنفيذهم الأعمى لتعليمات طهران، التي وصلت إلى طريق مسدود وهي تعيش نهاية أوهام القوة في العراق والمنطقة.
ويتضح عمق مأزقهم في وصول عقل خامنئي إلى الاعتقاد أنه سيؤكد أن طهران هي القوة الأولى في المنطقة وحاكم العراق وسوريا ولبنان واليمن من خلال إرسال صورة القتيل سليماني إلى الفضاء.