يقول الباحث الاقتصادي جايمس روبنسون انّ هناك مكونَين أساسيين لتقدم الأمم، الأول هو وجود سلطة مركزية قادرة على فرض القوانين تكون هي نفسها خاضعة للرقابة من الشعب، والثاني هو إشراك أكبر شريحة من المواطنين في العملية الاقتصادية وجَني الغالبية العظمى من الناس فوائدها، وإن بشكل متفاوت.
ويقول الباحث نفسه أيضاً، انّ منعطفات تاريخية قد تدفع الأمم إلى تسويات بين مكوناتها، قد تؤدي إلى النمو والرفاه، إن ذهبت واستثمرت في الاتجاه الصحيح، أو تؤدي إلى استمرار التقهقر في الأوضاع الاقتصادية والإنسانية، في حال لم تؤخذ الخطوات المناسبة للإصلاح.
بخصوص السلطة، من المنطقي اعتبار أنّ الحكم الديموقراطي وتداول السلطات السلمي والقوى المسلحة الخاضعة لقرار موحد وخضوع الجميع، من حاكم ومحكوم، لسلطة القانون، هي الأمور الأهم لاستقرار الحكم وتفادي الجنوح نحو الفوضى.
أمّا عن مشاركة الناس في الاقتصاد، فهي تعتمد على معطيات متعددة، تأتي في أوّلها ثقة المواطن بالقانون واستقرار التشريع وعدم استنسابية تطبيقه، وقدرته على المبادرة والإنتاج من دون أن يسلب منه تعبه، وأن تكون فرَص التعلّم والتطور مفتوحة أمامه، وأن يكون مبدأ الجدارة والتنافس المعيارين الأساسيين في الترقي.
وهنا يدخل عنصر ثالث عنوانه «التدمير الإبداعي»، أي المنافسة الحرّة التي تؤدي إلى خسارة البعض نفوذهم وفوائدهم من روّاد الوضع القديم القائم، مقابل بروز قوى جديدة على الساحة وتجديد النخب. وهكذا تدخل هذه النخب في التنافس مع نخب جديدة في الحاضر والمستقبل. هنا يكمن بيت القصيد، فإمّا أن تصمد أو تنتصر القوى القديمة محاولة أن تؤبّد نفسها، فتبدأ المسيرة الإنحدارية للأمة، أو أن تخضع أو تنهزم أمام الوضع الجديد فتنفتح الآفاق نحو المستقبل.
أمّا عن المنعطفات التاريخية فقد تكون كوارث طبيعية أو بيئية أو صحية، أو أن تكون ثورات وحروب واكتشافات جديدة.
المنعطف التاريخي الأول في لبنان بعد الاستقلال كان في حرب 1958 التي أدّت إلى انتخاب الرئيس فؤاد شهاب، والذي كان، كما بَدا، واعياً لضرورة تجديد النخب في لبنان والدفع في الوقت نفسه إلى توسيع قاعدة الكسب لتطاول أكبر شريحة من المواطنين. بطبيعة الحال فقد دخل الرئيس في مواجهة صامتة مع الحرس السياسي الطائفي القديم، ومع ذلك تمكّن من إرساء كثير من المؤسسات التي هدفت إلى تطوير الاقتصاد وإشراك أوسع شريحة من المواطنين في الإفادة منه.
أتى المنعطف الثاني نهاية عام 1961عند محاولة الانقلاب الفاشلة التي نفّذها الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهنا أصبح المكتب الثاني الحاكم الفعلي للبنان. صحيح أنّ ذلك الحدث دعم مركزية الحكم، ولكنه دعم قوى سياسية واقتصادية في مواجهة أخرى، وأعاد إنتاج وتعويم النخب القديمة، أو على الأقل جزء منها.
والانعطاف الثالث أتى مع اتفاق القاهرة سنة 1969 الذي قوّض أحد أهم أركان الدولة المركزية، وهو احتكارها لاستعمال السلاح، من خلال تشريع المقاومة الفلسطينية في بعض الأراضي اللبنانية. كان ذلك تمهيداً لتدهور الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية بنحو سريع، وعلى مدى 6 سنوات، في اتجاه مزيد من فقدان السيادة، بعد أن تفشّت ظاهرة الميليشيات المسلحة يميناً ويساراً.
والمنعطف الرابع، كان الحرب الأهلية عام 1975 والتي استمرت عقداً ونصف العقد من الزمن، حدثت فيها تغييرات واسعة في مختلف البنى السياسية والاجتماعية الأساسية في لبنان.
في العام 1979 أتى منعطف أساسي جديد وهو دخول رفيق الحريري الى الحياة العامة في لبنان، من خلال مشروع ظاهره خَيري بحت، لكن آثاره كانت كبيرة على تغيير بنية اجتماعية اقتصادية مزمنة، كان بعضها من أسباب الحربين الأهليتين السابقتين، وهي التفاوت الكبير في المستوى التعليمي بين الفئات الطائفية المكونة للشعب اللبناني.
الفلسفة الأساسية لمشروع رفيق الحريري الخيري، هي أنّ التعليم هو المدخل الأهم لتحسين الفرص الاقتصادية للأفراد. وبالتالي، فإنّ تحسن الوضع الاقتصادي للفئات المحرومة سيخفّف من أسباب التوتر الاجتماعي، مما يؤمن الاستقرار الوطني. من ناحية ثانية فقد كان الرئيس الشهيد يرى أنّ نهاية الحرب الأهلية لا بد آتية، مما يعني الحاجة إلى نخَب علمية جاهزة لقيادة مرحلة السلم. ترافَق ذلك كله مع السعي الحثيث إلى وقف الحرب الأهلية، والمبادرات المتعددة للوصول إلى تسوية تعيد تركيب الدولة بالمعطيات الممكنة.
الانعطاف التالي كان «اتفاق الطائف» الذي أنهى ذلك الفصل الطويل من الحرب الأهلية، ولكنه لم يُعِد السلطة إلى مركزيتها إلّا هامشياً، وذلك لبقاء ميليشيا «حزب الله» على سلاحها وحرية حركتها من جهة، ولممارسة النظام السوري سلطة الوصاية على معظم الخيارات السياسية والأمنية، وبالتالي الاقتصادية والاجتماعية.
هنا بدأ الفصل الثاني من ثورة الحريري الهادئة.