اضطلع قائد «فيلق القدس» الراحل قاسم سليماني بدور خاص ضمن المؤسسة الإيرانية التي تتمتع بنفوذ [كبير]. وكان مقرباً بشكل فريد من المرشد الأعلى علي خامنئي وتمتع بالذكاء والإبداع والدعم السياسي من أجل تصميم وتنفيذ سياسة النظام المعقدة القائمة على بناء وتولي قيادة شبكة من الجماعات المسلحة الوكيلة. وكانت بعض جهات الاتصال الميليشياوية الأقرب إليه تتواجد في العراق، حيث قام برعاية أبو مهدي المهندس المخلص والقادر، وهو ضحية أخرى في الضربة الأمريكية التي قتلت سليماني في الثالث من كانون الثاني/يناير.
وتحمل تلك الضربة تداعيات خطيرة على المدى الطويل بالنسبة للعراق. فبحلول أيلول/سبتمبر الماضي، بلغ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني ذروة نفوذه في الدولة المجاورة، حيث ارتقى من حرب غير تقليدية إلى مهام "دفاعية داخلية في الخارج". وبعد أن حقق هذه السيطرة الكبيرة في العراق، يحتاج «الحرس الثوري» الآن إلى الحفاظ عليها.
ولكن «الحرس الثوري» الإيراني و«قوات الحشد الشعبي» العراقية أصبحا يعتمدان بشكل مفرط على سليماني والمهندس. وقد ساهمت الضربة الأمريكية في وقف زخم «الحرس الثوري» وفتحت مجالاً سياسياً في العراق، مما قد يؤدي إلى تعيين رئيس وزراء أفضل قريباً جداً. كما أربكت مشروع توحيد «قوات الحشد الشعبي» وأطلقت المزيد من المنافسة في أوساط الميليشيات. وسابقاً، كان المهندس قد حثّ «كتائب حزب الله» التي يرأسها للاضطلاع بدور قيادي في هذا التوحيد. لكن المجال أصبح الآن متاحاً أمام الجماعة الميليشياوية بأكملها للعمل بطريقة مختلفة، وقد يضعف ذلك مكانة «كتائب حزب الله».
وساهمت الضربة الأمريكية أيضاً حتى في جعل الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر جهة سياسية فاعلة أكثر قوة، ومن المرجح أن يكون له تأثير في اختيار رئيس الوزراء المقبل. لكن حتى بعد أن اكتسب شهرة وأظهر نفوذه من خلال "المسيرة المليونية" التي نُظمت في 24 كانون الثاني/يناير، لا يزال يواجه معارضة من عناصر في حركته المنقسمة والتي يصعب السيطرة عليها. فقد يندفع بعض الصدريين إلى المعسكر الإيراني، في حين قد يركب آخرون الموجة المستمرة من حركة الاحتجاج المدني.
أما بالنسبة لـ «فيلق القدس»، فمن غير المرجح أن يعتمد على زعيمين إلى المدى الذي عوّل فيه على سليماني والمهندس. وبدلاً من ذلك، من المرجح أن يعيد توزيع القوى بين العديد من القادة الصغار، مما يؤسس طريقة عمل أكثر أماناً وتنوعاً.
وخلال الفترة القادمة، يتعين على الحكومة الأمريكية اتخاذ ثلاث خطوات لتحسين سياستها تجاه العراق. أولاً، يجب أن تحدد الجهات الفاعلة الصديقة وتدعمها. ويشمل ذلك الدفاع عن المتظاهرين، والإصغاء إلى الجيل القادم من قادة البلاد، وإعداد عراقيين مختارين من الشباب لحوارات "المسار الثاني" في المستقبل. ثانياً، عليها فرض تهديدات وعقوبات مؤكدة ضد الشخصيات العراقية التي تستحقها. ثالثاً، يتعين عليها التفاوض مع بغداد حول إطار تعاون أمني مستدام.
ومن خلال الاضطلاع بدور عسكري أكثر أماناً وأقل حركة في العراق، قد تتلاءم سياسة الولايات المتحدة حتى مع أهداف الصدر. وللحفاظ على شرعيته، على الصدر الضغط علناً من أجل انسحاب القوات الأجنبية، ولكن هذا الأمر لا يتطلب انسحاباً أمريكياً شاملاً، بل قد يعني تغيير في الرؤية والعمليات القتالية. لقد فتح موت سليماني المجال أمام إمكانية إجراء محادثة مهذبة - بعد فترة انقطاع - حول إطار تعاون أمني جديد. وسيمثل الصدريون جزءاً مهماً من هذه المحادثة. أما بالنسبة لاحتمال تحسين العلاقات الأمريكية مع طهران، فقد يتعين الانتظار حتى عام 2021، أي بعد الانتخابات الأمريكية والإيرانية.
تبنّى سليماني مقاربة عملية للغاية في القيادة. فقد كان ماهراً في تفويض المهام وتحريض الجماعات ضدّ بعضها البعض. وفي ظل قيادته، مثّلت سوريا المركز الأكبر للتدخل الإيراني في الخارج، ولا تزال كذلك حتى بعد مقتله. وقد تم أساساً ترسيخ آلية الوكالة الخاصة بطهران هناك ومن غير المرجح أن يتم التخلي عنها في أي وقت قريب. ولا يملك بشار الأسد القوة لطرد إيران حتى لو أراد ذلك - وليس هناك دليل على رغبته في القيام بذلك. وعلى الرغم من أنه لا يزال يتعين على طهران التنافس مع النفوذ الروسي والتركي على الأرض، إلّا أن سوريا تمثل جائزتها الاستراتيجية الكبرى. فقد كانت تُقيم قواعد لها هناك من أجل توجيه الصواريخ إلى إسرائيل وتعزيز سيطرتها على أراضيها. وفي غضون ذلك، تدفع بسردية "المقاومة" التي تنتهجها قدماً بشكل مطرد، داعمةً أهدافها الإيديولوجية من خلال إنشاء مراكز ثقافية وإعداد جماعات شيعية محلية.
وفي أعقاب مقتل سليماني، قد توسّع طهران رقعة النموذج الذي أتّقنته في سوريا: أي تعزيز تشكيل عدة جماعات أصغر حجماً، ووضعها تحت مظلة إيرانية عامة لضمان فعاليتها، وتحريضها الواحدة ضد الأخرى من أجل إبقائها تحت السيطرة. وحالياً، تتداخل الكثير من الأراضي السورية الخاضعة لسيطرة مثل هذه الجماعات، ولا سيما حول الحدود مع العراق. وتضمّ هذه المناطق عدداً كبيراً من القواعد، ومراكز لاعتناق المذهب الشيعي، كما تشهد جهوداً للتجنيد. ونظراً لأنها تشكل جزءاً رئيسياً من "الجسر البري" الإيراني إلى الحدود اللبنانية مع إسرائيل، فهي مهمة جداً من الناحية الجغرافية-الاستراتيجية.
وإذا شنت الولايات المتحدة المزيد من العمليات العسكرية رداً على عدوان إيراني أو آخر من قبل وكلاء إيران، فسيكون من الأفضل القيام به في سوريا، لأن ذلك سيخدم الهدفين المزدوجين المتمثلين بتجنب المزيد من أعمال التصعيد في العراق واستهداف مركز إيراني مهم. وكان اغتيال سليماني والمهندس على الأراضي العراقية قد مكّن مقتدى الصدر من استغلال الغضب المحلي لتحقيق أغراضه الخاصة. كما من شأن استهداف جماعات وكيلة في سوريا أن يبعث برسالة مفادها أن واشنطن تهدف إلى وضع حدّ لمشروع طهران العابر للحدود. وقد تكون العمليات داخل سوريا أكثر صعوبة بعد أن أصبح لدى الولايات المتحدة عدد أقل من الحلفاء، إلا أن أي إجراءات تتخذها هناك قد تكون أكثر علنية. أخيراً، يتعين على المسؤولين الأمريكيين التحقق من كيفية ترابط الجماعات الشيعية المختلفة في سوريا وغيرها من الدول، مع أخذ هذا التداخل في الاعتبار عند وضع العقوبات المستقبلية.
لا يزال «حزب الله» اللبناني أكثر الوكلاء الإيرانيين ترسخاً من الناحية المؤسسية. غير أن مقتل سليماني سيشكل تحديات أكثر مما سيقدّم فرصاً لهذا الحزب.
يُذكر أنه في المرة الأخيرة التي وصلت فيها العلاقة بين «حزب الله» وإيران إلى مفترق طرق كانت في عام 2011. وحتى تلك المرحلة، كان أمام الحزب مجال أكبر للمناورة كما كان لقادته نفاذ مباشر للنظام الإيراني الذي غالباً ما تشاور معهم في مسائل مرتبطة بلبنان وباقي دول العالم العربي. غير أنه بعد عام 2011، أدّى التدخل في سوريا وتحكّم سليماني المتزايد إلى التقليل تدريجياً من قدرة الحزب على المناورة من الناحيتين العسكرية والسياسية.
والآن بعد زوال سيطرة سليماني، يعتقد «حزب الله» على ما يبدو أنه قادر على استعادة بعض من الاستقلالية التي كان يتمتع بها قبل عام 2011. لكنه يدرك في الوقت نفسه صعوبة موقفه في الوقت الراهن. فقد كان الحزب يعاني من انخفاض الموارد والأفراد، خاصةٍ بعد تعرضه لعقوبات أكثر تشدداً، وخسارته العديد من قادة النخبة في سوريا، واعتماده المفرط على سليماني كقائد عسكري. وعلى هذا النحو، فإن الحزب منتشر حالياً بصورة متسعة بحيث يتعذر عليه الاضطلاع بدور أكبر في العراق أو باقي دول الهلال الشيعي.
وأدّت الاحتجاجات المحلية الأخيرة إلى تفاقم هذه المشاكل. وخلافاً لما يحصل في العراق، يتحدى المحتجون في لبنان الميليشيا الشيعية المحلية بشكل غير مباشر - فهم يتظاهرون ضدّ الفساد، علماً بأن «حزب الله» يحمي النظام الفاسد.
ويتمثل ردّ «حزب الله» على هذه التحديات في توطيد سيطرته المحلية. وللمرة الأولى على الإطلاق، شكّل حكومة مؤلفة بالكامل من حلفائه. ورغم أنه سيواصل العمل على قدرات الصواريخ الدقيقة بمساعدة إيران، إلا أنه لا يستطيع تحمّل تكلفة إشعال فتيل حرب مع إسرائيل قبل أن يكون مستعداً للقيام بذلك، لذا يتمثل هدفه المؤقت في السيطرة على جميع المناصب العسكرية والأمنية داخل الحكومة. كما يستعد لانهيار الاقتصاد والدولة في لبنان وذلك من خلال تخزين المواد الغذائية والسلع، معتقداً أن بإمكانه استعادة السيطرة من خلال تقديم هذه المواد والسلع كإغاثة وسط الأزمة المتفاقمة. وفي غضون ذلك، غمر «حزب الله» السوق المحلي بالسلع الإيرانية من خلال مواصلة عمليات التهريب، واستغل نقص الدولار في لبنان من خلال تخزينه الدولارات الأمريكية من العراق.
ولتعزيز نهج واشنطن الحالي القائم على العقوبات، على المسؤولين الأمريكيين اللجوء إلى "قانون ماغنيتسكي الدولي" لاستهداف حلفاء «حزب الله» السياسيين الفاسدين. ومن شأن هذه الخطوة الإضرار بالحزب وفي الوقت نفسه دعم مطالب المحتجين بإنهاء الفساد.
وهناك طريقة أخرى لمواجهة «حزب الله» وهي الامتناع عن إنقاذ الحكومة اللبنانية الحالية مالياً. فقادة الحزب بارعون في التلاعب برغبة المجتمع الدولي في الاستقرار في لبنان. وتحت هذه الذريعة، طرحوا حكومة يسيطر عليها «حزب الله» لن تنفذ أي إصلاحات جوهرية. إن إنقاذ هذه الإدارة لن يضفي إلا الشرعية على سيطرة الحزب على السياسة اللبنانية. ويقيناً، من المرجح أن ينهار الاقتصاد والحكومة معاً في ظل غياب خطة إنقاذ، الأمر الذي سيترتب عنه تداعيات إنسانية خطيرة. ومع ذلك، فإن الشعب اللبناني مستعد لقبول دولة فاشلة إذ كان الوصول إلى الحضيض سيمنحه فرصة حقيقية لإعادة بناء النظام.
معهد واشنطن