لا جدل في أن قضية فلسطين لم تعد “قضية العرب الأولى”. وإذا ما تأملنا هذا الواقع عميقا قد نكتشف أنها لم تكن يوما الأولى، وإن كانت الحروب التي ارتبطت بها شكّلت حتى عام 1973 همّا عربيا جماعيا لا لُبس فيه.
كان على دول الاستقلال في العالم العربي أن تتعامل مع دولة جديدة في منطقتها مدفوعة بضغط شعبي عام لم يكن باستطاعة النظم العربية الفتيّة تجاهله.
كان على الأنظمة المسمّاة “تقدمية” وتلك المسمّاة “رجعية” في أدبيات عصر الحرب الباردة أن تتعامل مع “الصراع العربي الإسرائيلي”، بصفته، بالنهاية، عرضا من عروض الحروب التي تُخاض بالوكالة بين عواصم كبرى تقود ذلك الغرب المبشّر بالليبرالية الديمقراطية، وعواصم منافسة تقود ذلك الشرق المُغرق في عالمثالثية عضوية مُمتهنا “النضال” كهدف سام لإسقاط “الإمبريالية”.
داخل ذلك الترابط الجدلي راجت “قضية فلسطين” بصفتها حاملة للنسخة العربية المكثفة لرياح الثورة واليسار التي نفخت في هذا العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. اختلط ما هو سياسي أيديولوجي مُغرض في أجنداته، بما هو إنساني مأساوي شتّت الفلسطينيين في بقاع الأرض وزرع لهم مخيمات داخل البيئة العربية الغاضبة.
بيْد أن سقوط المدّ الثوري منذ انهيار جدار برلين ووراءه انهيار الاتحاد السوفياتي وتعملق مآس إنسانية منافسة منذ تلك في البوسنة والهرسك قبل عقود، انتهاء بتلك في سوريا والعراق واليمن وليبيا هذه الأيام، أرخى على “القضية المركزية” ظلالا نسبوية، جعلت من الموقف منها عُرضة لوجهات نظر يحمل “كامب دايفيد” ووادي عربة” و”اتفاقية أسلو” وأعراض أخرى نسخا منها.
والصحيح أن قضية فلسطين باتت في الوجدان العربي العام ذكرى وجب إنعاشها، وليست واجبا فرديا على ما شاع في أدبيات البعث والناصرية وبيانات اليسار المتعجرف.
جرى أن رئيسا مثل زين العابدين بن علي في تونس (على سبيل المثال لا الحصر) كان يشرف على قيادة مظاهرة في بلاده توصف بالمليونية لنصرة فلسطين. يحصل الحدث ليوم واحد، ثم يعود الشعب والحكومة والبلد والرئيس إلى الحياة المعتادة.
وجرى أن هذا النظام أو ذاك أمعن في الدفاع عن “القضية” بصفتها مفتاح إرهاب الناس وتصنيفهم، وفق ذلك، داخل خندق الوطنيين المؤيدين للزعيم القائد، أو داخل خندق الخونة المعادين لـ”القضية” وبالتالي هم معادون للنظام الوطني المجيد.
تعلّقت ذاكرة العامة بالنسبة إلى موقف من فلسطين بأداء رسمي عام أباح استخدامها بيرقا لتبرير مآرب أخرى.
لم يظهر منذ اندلاع الاحتجاجات في البلدان العربية عام 2011 أن لفلسطين مكانا في صراخ المحتجين. وربّ متسائل هذه الأيام عمّا إذا كانت فلسطين، بصفتها قضية، ما زالت تحتفظ بمكانة داخل صراخ الناس في الضفة الغربية وقطاع غزة.
يبدو هناك أن الخطاب صار مصادرا لصالح الفصائل، وكثيرا من المواقف في فلسطين تنهل من مياه تقذفها ينابيع في إيران وتركيا.
على هذا تستفيق المنطقة على تفصيل جديد داخل مسلسل لا ينتهي. ذلك أن لقاء رئيس مجلس السيادة في السودان عبدالفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وما تبع ذلك من كلام حول تطبيع قادم للعلاقات بين البلدين، أعاد إيقاظ المنطقة على واقع بدا أنها تحاول غضّ الطرف عنه والقبول بقدرِه لا مقاومته.
باتت إسرائيل جزءا من هذه المنطقة، مُعترفا بوجودها، ويجري استقبال مسؤوليها وجرت استضافة متحدثيها عبر فضائياتنا خلال العقود الأخيرة.
تبدّل الزمن، وبات الجنرال العربي الذي كان يرى قبل عقود أن أبجديات الحكم تكمن في معاداة العدو والإفراط به، بات هذه الأيام يرى أن مصلحة بلاده العليا تتطلب إسقاط محرّم قديم والذهاب إلى تطبيع مع عدوّ بات سابقا.
بيد أن أمر الحرج المستمر من أمر القفز إلى هذا الواقع يدل على أن ذلك السلوك ما زال ليس يسيرا.
لم تستطع السنون التي تلت “كامب دايفيد” مع مصر و”وادي عربة” مع الأردن أن تنتج تطبيعا حقيقيا بين الدول الموقعة. ثبت أن مغامرة الزيارات التي قام بها أردنيون ومصريون (ومواطنون من بلدان عربية أخرى) إلى إسرائيل بصفتها دولة سلم لا حرب معها، كانت من السوء في رد فعل الرأي العام في بلدانهم، بحيث كان واضحا أن التطبيع ما زال مستحيلا ولو بعد حين.
غير أن إطلالة “السودان الجديد” المفاجئة على حلبة التطبيع ليست سابقة ولا سبقا نادرا. كان رئيس الوزراء القطري الأسبق حمد بن جاسم قد أفتى قبل سنوات بأن علاقة بلاده العلنية مع إسرائيل كانت، وما زالت، السبيل الوحيد لخطب ودّ الولايات المتحدة. ولن يفوتنا هنا أن إزالة السودان عن لوائح الإرهاب، وهو إثم يُسأل عنه “نظام الثورة” في عهد عمر البشير، تستلزم المرور بعلاقة طيبة مع إسرائيل.
على هذا تعتمد الولايات المتحدة، خصوصا في عهد دونالد ترامب وحضور صهره جاريد كوشنر، إسرائيل واجهة أساسية يتقرر من خلالها موقف واشنطن الاستراتيجي من هذه الدولة أو تلك. والأمر ليس جديدا، وفق فتوى بن جاسم في الدوحة، لكنه هذه المرة بات أكثر سهولة وقبولا في منطقة أنهكتها أعاصير لم تكن لتسلم منها دولة في العالم.
غير أن الحدث السوداني، الذي يكاد يأتي بعد ساعات على إعلان خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط، يعود للتأكيد على خطأ الاعتقاد، وربما تسويق أن قضية فلسطين لم تعد مركزية وليست الأولى في العالم العربي.
فإذا ما فقدت هذه القضية وهجها الجواني في الوعي الجماعي عند العرب، فلماذا الحرج من التطبيع والارتباك حين اللقاء مع مسؤول إسرائيلي، والتلعثم في تبرير استضافة وفود إسرائيلية.
وإذا ما باتت هذه القضية غير مهمة وهامشية في العالم العربي، فلماذا هذه الهجمة الإلكترونية التي تشنّها جيوش وسائل التواصل الاجتماعي ضد فلسطين والفلسطينيين، وكل ما يمتّ إلى قضيتهم بصلة.
يحتاج العرب جميعا إلى القفز عن مرحلة المتاجرة بقضية بفلسطين باتجاه إنهاء هذه القضية بما يعيدها قضية عربية، لا قضية فلسطينية فقط. لا يحتاج العرب جميعا إلى التطبيع مع إسرائيل بقدر حاجة إسرائيل للتطبيع مع العرب. وإذا ما بات التطبيع قَدَرا تفرضه موازين القوى فحريّ بالعرب جميعا ألاّ يكون الأمر مجانيا وأن يفرضوا، بالعقل على العالم، وربما على الفلسطينيين أنفسهم، “حلا عادلا” يجوز بعده ارتكاب أيّ تطبيع دون نزق أو حرج.
لن يكون مفيدا استمرار النظام العربي في التلطي وراء ما يريده الفلسطينيون، فيما هؤلاء عاجزون عن الدفاع لوحدهم وبانقساماتهم، عن أكثر قضايا العصر تعقيدا، ولسان حالهم يقول للعرب أن أنقذونا من أنفسنا.
منحت صفقة ترامب إيران وتركيا رخص استيلاء على “قضية العرب الأولى”. بات لأنقرة وطهران القول الفصل في تحديد مسارات فلسطين عند العامة العرب. رفضتا الصفقة اليوم، ولن تترددا في تسويقها غدا إذا ما بات ذلك خادما لمصالح السلطان والوليّ الفقيه.
جدير أن نعترف أن “قضية فلسطين” ثروة عربية خالصة حريّ بالعرب، والعرب فقط، أن يحسنوا استثمارها بما يخدم مصالحهم، ومصالحهم فقط.