كان السوريون يراقبون ثورات الربيع العربي تندلع في بلدٍ تلو الآخر وهم يكتمون أنفاسهم منتظرين وصول رياح التغيير إليهم، فبدأت شرارة الثورة الأولى من درعا عندما قامت قوات الأمن باعتقال خمسة عشر طفلاً إثر كتابتهم شعارات الحرية على جدران مدرستهم متأثرين كباقي أطفال العالم بشعارات الحرية التي كانت تغزو العالم العربي والمحطات التلفزيونية آنذاك. حيث خرج بعض الأشخاص في درعا من أجل أطفالهم في جمعة الكرامة, فسالت أولى قطرات الدم السوري وهكذا كانت شرارة الثورة التي لم يعد من بعدها أهل حوران إلى بيوتهم حتى انتفضت سورية كلها بعد شهرٍ من خروج أهل درعا وحصار النظام لها.
وتجدر الإشارة إلى أن الاحتجاجات انطلقت سلمية ضد الرئيس بشار الأسد وعائلة الأسد التي تحكم البلاد منذ عام 1971، مطالبين بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، ولكن قوات الأمن واجهتهم بالرصاص الحي فتحوّل شعارهم من المطالبة بالإصلاحات إلى إسقاط النظام. واستمرّت الثورة شعبية سلمية وعفوية، ليس وراءها حزب معيّن لمدّة ستة أشهر، ونتيجةً لتعامل النظام بطريقة عنيفة واستئصالية، أخذت الثورة السورية تتحول شيئاً فشيئاً إلى ثورة مسلّحة، لا سيّما بعد الإنشاقاقات في الجيش النظامي التي أفرزت ظاهرة الجيش الحرّ الذي أخذ على عاتقه مهمّة حماية المتظاهرين والبيئات الشعبية الحاضنة للثورة، مما أدى إلى تطوير أساليب القمع من قبل النظام السوري فأدخل سلاحيّ المدفعية والطيران. الأمر الذي أدى إلى فوضى عارمة ودمار شبه كامل في سوريا، استغلّته بعض الجماعات المسلحة التكفيرية، مستعملةً الثورة بوعي أو بدون وعي ، جسراً للتسلّق والتملّق والإسترزاق، والعبور والوصول إلى حيث تقع مصادر الدعم والتمويل، التي ألحقت ضرراً بالغاً في إعلام الثورة وعلاقاتها المحلية والدولية، وكان لإعلان جبهة النصرة ولاءها للقاعدة أثر سلبي بالغ على النشاط السياسي للمعارضة السورية التي تسعى إلى الحصول على دعم دولي ليس معنوياً فحسب وإنما مادي وتحديداً ما يتعلق بالتسليح لمقارعة قوات الأسد المدعومة من روسيا، إيران وحزب الله.
ولا شكّ بأن سلوك جبهة النصرة الموالية للقاعدة يذكر بسلوك ما يُعرف بدولة العراق الإسلامية، الموالية أيضا للقاعدة. فلم تجلب على العراقيين إلا القتل والدمار وإن كان فريق من العراقيين تعاطف معها في بدايات الأزمة. لكن في نهاية الأمر، وجد العراقيون وتحديداً السنة أن القاعدة كانت تستهدفهم أكثر من غيرهم، فانقلبوا ضدّها. ويبدو أن القاعدة تريد تكرار التجربة في سوريا.مما حمّل المعارضة "الجيش الحرّ" تحديداً، مهام أخرى وتحديات أكبر، ألا وهي وضع حدّ لهذه الجماعات المنفلتة والخارجة عن القانون والضوابط ذات المحتوى العقدي الصارم، والتي تتحرّك باسم الثورة مستغلّةً احتدام الصراع المسلّح والفراغ الأمني، لكونها تسيء إلى صورتها ومصداقيتها، مثلما تسيء إلى السوريين. وقد أعلنت المعارضة السورية عدّة مرّات عن موقفها المعارض والمضادّ لهذه الجماعات، وأفادت مصادرهم أن هناك قتلى للمعارضة استشهدوا خلال دفاعهم عن المقامات المقدسة التي طالما كانت في رعاية الأخوان السنة في سورية، فأصبحت المعارضة بين خيارين كلاهما مرّ، إما أن تُحسب على هذه الجماعات وإما أن تحاربها وتحارب النظام وتحارب حزب الله والمجتمع الدولي، فهي ضحية مصالح المجتمع الدولي المتباكي على أطفال سورية ولم يحرّك ساكناً منذ بداية الثورة، وضحية النظام القمعي وضحية التطرّف الأعمى، هذه الضحيّة المثلّثة الجوانب، الجوانب التي تقطر دماً، لا يعلم أحد كم ستصمد...