التحدي الأساس للحكومة ليس في بيانها الوزاري، على رغم انّ هذا البيان كفيل بتظهير نيّاتها العملية ورؤيتها الإصلاحية، إن وجدت، بل في مدى إصرارها على المضي قدماً في خطوات تنفيذية ضمن مهل زمنية محددة لإقفال ملفات مشكو منها منذ عقود، بدءاً من ملف الكهرباء، وصولاً إلى الاتصالات، وما بينهما الجمارك والمعابر غير الشرعية والإقدام من دون تردد على إشراك القطاع الخاص مع العام وخطوات أخرى ضرورية ما زالت حبراً على ورق في البيانات الوزارية لكل الحكومات المتعاقبة بسبب إصرار جهات معلومة على إبقاء الأوضاع على ما هي عليه كونها مستفيدة من حالة الفوضى.
ومن غير المعروف بعد ما إذا كانت الأكثرية داخل الحكومة أم الأقلية ستكون مستعدة لتفجير مواجهة على طاولة مجلس الوزراء، والاتّكاء على القوى خارج الحكومة والناس في الشارع من أجل الضغط لمعالجة الملفات المَشكو منها، إذ على رغم الخطايا التي شابَت التأليف، فإنه لا يمكن الحكم بنحو مُبرم ونهائي على طريقة عملها في ظل وجود وزراء مستقلّين فعلاً ولا يجب ان يكونوا في وارد تلطيخ صورتهم والقضاء على أول تجربة لحكومة تكنوقراط بعد «اتفاق الطائف»، ولو كانت تسمية الوزراء تمّت عن طريق القوى السياسية.
فالثورة نجحت بنسبة 50% من خلال إبعاد التمثيل السياسي المباشر في الحكومة لشخصيات أصبحت مُلمّة بمقولة «من أين تأكل الكتف» داخل جسم الدولة المترهّل، ولكن الـ50% الأخرى تبقى الأهم لجهة هامش حركة الوزراء الجدد وقدرتهم على كسر المحرّمات وتحويل الحكومة مجرد استثناء أم قاعدة يفترض اتّباعها في كل الحكومات المقبلة لإدارة الشأن العام.
وفي مطلق الحالات، فإنّ مهمة الحكومة صعبة وشاقة جداً كونها تتحرّك وسط 4 لاءات أساسية:
ـ اللاء الأولى شعبية، حيث انّ الناس رفضوا منح الحكومة الثقة ولا حتى الفرصة كونهم اعتبروا انّ تأليف الحكومة خالفَ مطالبتهم بتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين بعيدين عن منطق المحاصصة السياسية وتقاسم الحصص والنفوذ، ما يعني أنّ الناس لن يهادنوا الحكومة وأعلنوا المواجهة معها قبل الثقة وستستمر بعدها، كما يعني أنّ الحكومة تمارس مسؤوليتها وسط بيئة شعبية غير حاضنة، الأمر الذي يجعلها تحت المجهر الدائم والضغط المتواصل وفي مواجهة مفتوحة مع الناس الذين أصبحوا اعتباراً من 17 تشرين الأول شركاء في الحياة السياسية، ولم يعد بمقدور أي سلطة تجاهل المعطيات الشعبية الجديدة.
ـ اللاء الثانية سياسية، إذ انّ الحكومة لا تحظى بغطاء قوى سياسية وازنة كانت جزءاً من التسوية الرئاسية على غرار تيار «المستقبل» سنيّاً، و»القوات اللبنانية» مسيحيّاً، و»الحزب التقدمي الإشتراكي» درزيّاً، وعلى رغم انّ هذه القوى قررت عدم المواجهة على قاعدة «يا قاتل يا مقتول» أي لا نقاش قبل سقوط الحكومة، إلا انّ وجودها خارجها يضعف الجانب التمثيلي للحكومة شعبياً ووطنياً وخارجياً، كما لا يمكن الاستهانة بدور هذه القوى وتأثيرها خصوصاً في حال، لاعتبار من الاعتبارات، تدحرَجت الأمور في اتجاه مواجهة شاملة.
ـ اللاء الثالثة عربية، في ظل صمت عربي واضح لم يعلن حتى الترحيب بالحكومة ولو بطريقة ديبلوماسية، ما يعني استبعاد ايّ مساعدات مالية فورية والتي لبنان بأمسّ الحاجة إليها للخروج من أزمته المالية، في اعتبار انّ المسار الإصلاحي الذي على أساسه ستأتي المساعدات يتطلّب وقتاً طويلاً، فيما لبنان أحوَج ما يكون الى مساعدات سريعة.
وعدم الترحيب العربي ورفض تقديم المساعدات لا يعني قطع العلاقات الديبلوماسية مع لبنان في مرحلة إقليمية تشهد للمرة الأولى تراجعاً في الدور الإيراني في ظل إصرار أميركي على ترسيم حدود هذا الدور، خصوصاً انّ عودة الرئيس دونالد ترامب باتت مؤكدة. وبالتالي، لن تتمكن طهران من الرهان على تغيير في الإدارة يتيح لها تمديد دورها الإقليمي. وهذا يعني أنه في ظل وضع من هذا النوع لن تقدِّم الدول العربية لبنان على طبق من فضة لطهران، ولكنها في الوقت نفسه لن تقوم بإنقاذه طالما انّ حلفاء إيران يتحكّمون بمفاصل القرار السياسي فيه.
ـ اللاء الرابعة دولية، وتزاوج بين كون الحكومة من لون واحد، وبين ربطها للمساعدات ببرنامج إصلاحي واضح المعالم، فلا مساعدات من دون إصلاحات جذرية وبنيوية، وما لم يعطَ لحكومة الرئيس سعد الحريري لن يعطى لحكومة دياب، والمجتمع الدولي صارم على هذا المستوى. وبالتالي، هل ستتمكن الحكومة من القيام بالإصلاحات المطلوبة وفق المعايير الدولية بدءاً من ملف الكهرباء؟
ولا يوجد حتى اللحظة إجابة واضحة عن هذا السؤال بسبب إصرار العهد على النهج نفسه المتّبَع في الكهرباء، وإصرار الثنائي الشيعي على رفض إشراك القطاع الخاص مع القطاع العام. وبالتالي، في حال لم تتمكن الحكومة من كسر هذا الواقع في الاتجاهين فهذا يعني انّ الإصلاح سيبقى مزايدات كلامية.
فالخارج إذاً بشقّيه العربي والغربي لا ينظر بعين الارتياح الى الحكومة لسببين: كونها من لون واحد ومُعادٍ للمجتمعين الدولي والعربي، وكونه لا يأمل خيراً منها على المستوى الإصلاحي.
وعليه، فإنّ انطلاقة الحكومة ستكون صعبة ومتعثرة بفعل اللاءات الأربع الشعبية والسياسية والعربية والغربية والتي تشدّ الخناق عليها وتطوّقها من كل حدب وصوب، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستنجح الحكومة في احتواء هذه اللاءات فتبدّد غضب الناس وتؤدي إلى تليين المواقف المعارضة ضدها وتنتزع تفهّماً عربياً ودولياً؟ وماذا لو استعَر الوضع في وجه الحكومة شعبياً وسياسياً واستمرت الأبواب الخارجية مغلقة في وجهها؟ وهل ستتمكن الحكومة من الصمود في مواجهة اللاءات المذكورة في ظل وجود أزمة مالية غير مسبوقة في تاريخ لبنان؟