ليس من السهل البَت بهذا النقاش والتوصّل الى سيناريو يُنهي الجدل الذي يمكن أن ينشأ حول أولويات المرحلة وما يمكن ان يقدّمه البيان الوزاري من صورة عن الخيارات المطروحة امام الحكومة للخروج من الأزمة المتعددة الوجو،ه واستعادة الثقة المفقودة داخلياً وخارجياً في آن بالدولة ومؤسساتها، وخصوصاً في قطاعها المصرفي.
كانت الحكومة متواضعة في طرحها لِما يمكن أن يضمّ البيان الوزاري فقدّمت على ما يبدو تصوّرها للمخارج الممكنة للملفات الداخلية قبل الخارجية، وفي مقدمها الملف النقدي، نظراً الى حجم الأزمة الذي تَسبّب بها التقنين القاسي المفروض على العملات الأجنبية في بلد تجاوزت فيه نسبة الدولرة في اقتصاده نسبة 73% وغابَ النقد الوطني من جيوب اللبنانيين منذ سنوات لتحلّ مكانه العملة الخضراء وزميلاتها من العملات الأجنبية.
وعلى وقع الانتفاضة الشعبية التي شهدها البلد منذ 17 تشرين الأول الماضي، فقد فرضَ التعاطي معها في الشكل الذي أراده الرئيس المكلف تشكيل الحكومة «إهداء» «المقدمة الشعرية» في البيان الوزراي للانتفاضة والمنتفضين رغم فقدان ثقتهم بالتشكيلة الجديدة، بعدما أخَلّ الرئيس المكلف بالتعهدات التي قدّمها لدى تكليفه بتشكيل حكومة من المستقلين والإختصاصيين الذين يشبهونه، فجاءت بغير ما اشتهاه هو قبل أن تأتي بما يطالب به الشارع اللبناني الذي عَبّر منذ اللحظات الأولى عن فقدان ثقته بها.
وانطلاقاً ممّا تقدم، أصَرّت اللجنة الوزارية المكلّفة إعداد البيان الوزاري على تقديم صيغة جديدة للبيان، لعله يأتي مختلفاً عمّا سبقه. ولذلك فقد وعدت اللبنانيين بقليل من الكلام وكثير من الخطط للخروج من المآزق المتعددة التي يعانيها البلد، ولاسيما منها تلك التي تناسَلت جرّاء الأزمة النقدية والمصرفية التي هدّدت اللبنانيين جميعاً في عيشهم اليومي. هذا عدا عن انعكاساتها السلبية على الدولة والتزاماتها الدولية المبرمجة قياساً على حجم الديون والإستحقاقات الكبرى التي فرضها التعاطي مع كلفة الدين العام بوجهَيه الداخلي والخارجي. بالإضافة الى ما تسبّبت به من إقفال مئات المؤسسات التجارية والخدماتية، بعدما توافرت العلاجات الاستثنائية لبعض القطاعات الحيوية كالأدوية والقمح والمحروقات.
وعليه، قال البيان بتقديم الشق الإقتصادي على الشؤون السياسية وبعض الملفات التي تعني بعلاقات لبنان الخارجية في ظل النزاع المُحتدم في المنطقة، الذي انعكسَ انقسامات حادة بين اللبنانيين على أكثر من مستوى نتيجة تورّط بعضهم في الأزمات الخارجية العربية والدولية، ومحاولة اقتياد لبنان الى حرب المحاور التي لا يستطيع ان يتحمّل نتائجها من دون العودة الى ما تمّ التفاهم في شأنه سابقاً من دعوات الى «النأي بالنفس» ليبقى لبنان في منأى عن انعكاساتها الكبرى، وهو ما ترجَمته الدول الكبرى برفع الغطاء الدولي الذي كان يحمي لبنان منذ سنوات، وخصوصاً في المرحلة التي تَلت انفجار الأزمة السورية، فكان ما كان من مظاهر الأزمة النقدية والمعيشية التي يعيشها لبنان وما يعنيه الإهمال العربي والخليجي تحديداً، وحجم الشروط الدولية المُنهكة للبنان التي وضعت العالمين العربي والدولي في سلّة واحدة.
ورغم وجود هذا الاقتناع بضرورة تقديم الحلول للمشكلات الداخلية على ما يمكن معالجته على المستوى السياسي والديبلوماسي، فقد اقتنع واضعو البيان بأنّ التداخل بين وجوه الأزمة الداخلية والخارجية لن يمكّنها من خوض التجربة على النحو الذي أرادته. فقد فهموا أنّ معالجة الأزمة النقدية تفرض على الحكومة السعي الى ترميم علاقات لبنان الخارجية لتوفير الدعم المطلوب نقدياً ومالياً وعلى وجه السرعة لبدء الحديث عن الحلول للأزمة النقدية.
فالجميع يدرك، وفي مقدمهم أهل الحكم والحكومة، انّ ما هو متوافر في الداخل اللبناني من احتياطات مالية لا يكفي لمعالجة مظاهر الأزمة والتخفيف من حدّتها مرحلياً. وأنّ أي خطة لاستدراج الدعم الدولي تحتاج الى توفير الظروف المقنعة لمصادر التمويل الخليجية والدولية للتدخّل مجدداً في الأسواق المالية لحَلحلة العقد وتجاوز التقنين المالي الحاصل الذي يمكن أن يَصل قريباً الى فقدان كل العملات الأجنبية.
ولذلك، لا يمكن لأحد من المسؤولين تَجاهل الرسالة المدوية التي وجّهها مصرف لبنان الى المسؤولين، ومفادها انّ التضحية باحتياطاته مهما بلغ حجمها غير وارد، وانه يجب عليه أن يحتفظ بها بغية توفير ما يحمي مقوّمات العيش اليومي للبنانيين، لأنّ التفريط بها في أسواق المضاربات المالية قد لا يكون كافياً للَجم التدهور في أسعار العملات واستعادة استقرار السوق.
وعليه، باتَ هناك من يفكر بضرورة إعادة النظر في الأولويات بغية تقديم المخارج السياسية والديبلوماسية للأزمة. فطريقة معالجتها أقصر بكثير من مواجهة الأزمة النقدية، ويمكن عند اتخاذ قرار سياسي جامع بتحييد لبنان عن مسار الأزمات في المنطقة قد يكون أسرع رغم المصاعب التي تواجه اهل الحكم وعدم رغبة البعض منهم - وهم في مواقع متقدمة - في تقديم التنازلات التي تخدم المصلحة الوطنية العليا وإن أضَرّت بالمحاور الإقليمية التي باتت تحتسب لبنان على لائحة العواصم العربية الخمسة الواقعة تحت الجناح الإيراني، وهو ما وضَع الحكومة الجديدة تحت جناح «حزب الله» عن قصد او غير قصد، سواء كان ذلك صحيحاً أم لا.
وعشيّة جلسة إقرار البيان الوزاري يجدر التوقّف عند سَيل المواقف التي تدعو الى تصحيح المسار السياسي قبل الداخلي. فالمواقف العربية والغربية تلاقت على ضرورة إعادة النظر سريعاً بما هو مطلوب من الحكومة في بيانها. لربما يؤدي ذلك الى تأجيل البحث في الملفات الداخلية الشائكة التي تجدّد النزاع حولها في المناقشات التي شهدتها الاجتماعات في السراي الحكومي. فإغفال او إخفاء الخلافات حول شكل العلاقات الدولية وضرورة تحييد لبنان عن المحاور الخارجية والعودة الى النأي بالنفس لا يفيد في شيء. فالعالم يراقب ويعرف الشاردة والواردة، وهو على علم بحجم الخلافات العميقة التي ورثتها الحكومة التي قيل انها مستقلة حيادية عن سابقتها، وتحديداً حول خطة الكهرباء وطريقة التعاطي مع كلفة الدين واستحقاقات آذار المقبلة على مستوى سندات «اليوروبوند» ودفع كلفتها او تأجيله، وإعادة النظر بها كما بالنسبة الى طريقة التعاطي مع الحراك الذي لن ينتهي مع تشكيل الحكومة.
وبناء على كل ما تقدّم، ونتيجة لما هو قائم من خلافات عميقة بقيت بين جدران السراي، والتي ستنتقل اليوم الى قاعة مجلس الوزراء في القصر الجمهوري، يعزّز الاعتقاد في انّ ما يجري اليوم يمكن أن يكون «تظهيراً للبيان الوزاري بالمقلوب»... والساعات المقبلة قد تأتي بالخبر اليقين.