وفي انتظار أن يلتئم مجلس الوزراء لإقرار مسودة البيان الوزاري، ويدعو رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى جلسة مناقشة عامة لمنح الحكومة الثقة، فإنّ الثقة نفسها هي العنصر المفقود في كل نواحي الحياة في لبنان.
لا يحتاج المرء الى بذل كثير من الجهد لتأكيد هذا الواقع. يكفيه أن يتخذ موقف المتفرّج في أحد المتاجر، ليستشعر ذلك المجهول الآتي في أعين الناس، أو أن يفاتح أحدهم بالشأن المالي ـ الاقتصادي، ليكتشف أنّ كل محاولات التطمين الى إمكانية اجتياز هذه المرحلة الصعبة، ما هي إلاّ مجرّد كلام ليل أو نهار تمحوه اول زيارة يقوم بها اللبناني إلى فرعه المصرفي لتسوّل نذر قليل من وديعته، أو راتبه.
بات القطاع المصرفي، الذي طالما تغنّى به لبنان، أقرب إلى «دفتر جودة ابو خميس»، بطل مسلسل «ضيعة ضايعة»، كما وصّفه أحدهم، فهو يسطو على أموال جاره، ويقنعه بأنّ «كل شيء مسجل على الدفتر»، طالما أنّ «الدنيا حياة وموت»... ولكنّه مسجّل فحسب!
هذا التوصيف لواقع الحال، يعززه التضارب الحاصل بين التصريحات الرسمية والواقع المعاش، والذي يدفع كثيرين إلى طرح أسئلة حائرة، عنوانها العريض: هل خسرنا كل ما تيسّر لنا إدخاره على مدى سنوات من عرق جبيننا؟
الكارثة الكبرى، انّ أحداً من القائمين على شؤون البلاد والعباد لم يكلّف نفسه جهد التوجّه إلى الرأي العام، بشيء من اليقين، بعيداً من الشعارات الفضفاضة المستوحاة من أسطورة «طائر الفينيق»، وبعيداً من المصطلحات المالية المعقّدة، التي لا يمكن توقّع فهمها لدى مواطن عادي، كل ما يهمّه أن يوفّر القوت لأبنائه، وأن لا يجد نفسه قد فقد كل شيء دفعة واحدة، فيما فاسدو البلد أحراراً في التصرّف بالمال المنهوب.
ضمن هذا السياق، أتت تسريبات حول تعميم من المصرف المركزي حول سقف السحوبات، أشاع نوعاً من الطمأنينة لدى الناس، إلى أن تبدّد ببيان نفي صادر عن جمعية المصارف، مشفوعاً بتضييق إضافي على سحب الودائع بالدولار، وتحذير من أنّ السيولة بالعملة الصعبة تنفد.
لكأن أحداً ما في هذه الجمهورية يريد اللعب على أعصاب الناس، وتعميق الهوة الواسعة والسحيقة أصلاً داخل البلد، لتحويله، مع قرب الاستحقاقات المالية الكبرى إلى «أرض الخوف».
حتى انّ ما تسرّب من البيان الوزاري لا يُخرج البلاد من دائرة «أرض الخوف» تلك؛ كل ما فيه أفكار هلامية، تمّت صياغتها بعناية لكي توحي أنّ ثمة رؤية حاسمة لانتشال لبنان من جحيم الاقتصاد والمال، فيما هي في جوهرها مجرّد أفكار عشوائية بعيدة عن الواقع، لتبدو بنظر كثيرين مجرّد «كاتالوغ» لإدارة الانهيار.
السؤال هنا، هل يمكن توقّع أن تنال الحكومة الجديدة ثقة الشعب اللبناني، تبعاً لبيان كهذا؟ وحتى ولو نالت الحكومة الثقة البرلمانية، فهل ثمة من يتذكّر ذلك الكمّ من البيانات الوزارية التي بقيت في الممارسة حبراً على ورق مستهلكاً من خزينة الدولة اللبنانية. فما الحال إذا كانت الثقة مفقودة اليوم بين المواطن وحكومته، بفعل الممارسات التراكمية، التي أفضت إلى الإنفجار الشعبي ليل 17 تشرين الأول؟!
على أنّ ما تكشّف من البيان الوزاري أيضاً، كرّس شعوراً بانحياز حكومي إلى المصارف بدلاً من المواطن، بصرف النظر عن التناقض بين ما تضمنه من تطمينات للمودعين الصغار، وبين التلميحات بقوننة الإجراءات المصرفية التي حوّلت آلاف اللبنانيين متسولين، وبين الخطط الآيلة إلى انتشال المصارف من أزماتها، على رغم من أنّها هي نفسها المسؤولة عنها، من خلال السياسات النقدية التي ضخّمت من خلالها ثرواتها، وثروات «الحيتان» على حساب المال العام.
الأخطر، أنّ كل ذلك يجب أن يتحمّله المواطن بفاتورتين ضخمتين، الأولى تتصل بقوننة ما هو غير قانوني، حين يتعلق الأمر بالودائع الصغيرة، والثانية تتمثل في التوجّه نحو تبني الوصفات الكارثية لمؤسسات المال الدولية، التي يُقال انّها باتت القدر المحتوم على اللبنانيين! أو حتى الذهاب إلى «خطوات مؤلمة» من قبيل مزيد من الاستدانة لغرض وحيد هو تسديد جزء من ديون متراكمة، سرعان ما تحوّلت بفعل منظومة الفساد ودائع ضخمة في الداخل والخارج.
كل ذلك، يشي بأنّ المئة يوم التي حدّدتها الحكومة الجديدة لتحقيق أول أهدافها الإنقاذية لن تكون سوى عدّ عكسي لمغامرة قد تنتهي إما بالغرق في الرمال المتحرّكة، ويكون قد كفاها شرف المحاولة، وإما العواصف الكبرى، التي قد تتفجّر موجة أكثر ضراوة من الغضب الشعبي.
يبدو الرئيس حسان دياب في ذلك محاصراً من جهات ثلاث:
ـ أولاً طبقة سياسية، موالية أم معارضة، لا فارق، على استعداد كامل لتدمير البلاد في حال المس بامتيازاتها المالية غير المشروعة.
ـ ثانياً، شعب بلغ به اليأس حدّاً جعله يمضي في المواجهة وفق منطق أن لا شيء يمكن خسارته بعد اليوم.
ـ ثالثاً، والأهم، مجتمع دولي ساعٍ الى أن يحقق في الاقتصاد ما لم يستطع تحقيقه في الضغوط السياسية أو حتى الحرب العسكرية. هذا الخارج لن يجد حرجاً في أن يدع لبنان يغرق في رمال الأزمة الاقتصادية المتحركة لكي يأتي إليه في مرحلة الاختناق جاثماً على ركبتيه، ليقدّم ما أمكن تقديمه من تنازلات، في كل المجالات.
هذا تماماً ما يجعل المليارات الخليجية التي تحوّلت من حلم إلى وهم، مرهونة بفاتورة سياسية، من المؤكّد أنّ لبنان لن يستطيع تسديدها.
وهذا تماماً ما يجعل مسؤولاً أميركياً مثل ديفيد شينكر، يصرّ على المجيء إلى لبنان بُعيدَ حصول الحكومة الجديدة على الثقة البرلمانية، متقمصاً دور غراب، ليبشّر اللبنانيين بأنّ الإقتصاد اللبناني أسوأ مما يظن البعض، وأنّ الاحتياطات من العملات الأجنبية أقل بكثير مما تمّ الإبلاغ عنه علناً، مقدّماً «الترياق الأميركي» لمنع الانهيار الكبير: ترسيم الحدود بالشروط الاميركية -الاسرائيلية، وتخلّي «حزب الله» عن «الصواريخ الدقيقة»... ومعهما تهديدات صريحة ومبطنة، بأنّ كل البدائل الممكنة، إن كانت بالاستدارة نحو روسيا أو ايران أو الصين، ستجعل انتشار الفوضى أكبر بكثير من انتشار فيروس «كورونا»، الذي يعيش لبنان على الشائعات المنسوجة حوله ـ من المؤكّد بنحو غير عفوي - على مواقع التواصل، والتي تجعل اللبنانيين منقسمين تجاهها بين حالات الهلع، وبين تمنيات يائسة، بأن يكون خلاصهم بـ»عطسة» ينفث بها أحد الآسيويين بعضاً مما يختزنه من هذا الفيروس القاتل، في وجه منظومة الفساد السياسية والاقتصادية والمصرفية التي تسببت بهذه الأزمة في لبنان، وعمّقتها إلى حد لم يعد يُرى فيه قعرها!