يصدمك، فعلا، حديث عمّا سُمّي بـ”صفقة القرن” يدلي به سياسي أميركي عراقي يعتبر نفسه من المحبوبين القلائل لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وليس فقط من المقرّبين إليه، وكان لصيقا به في زيارته الأخيرة لولاية ميتشغان مؤخرا.
يقول لك، حين يثق بك ويطمئن إلى أنك لن تنشر كلامه مرفوقا باسمه الصريح، إن الصفقة صفعة بكل المقاييس الدولية والإنسانية والسماوية، نعم، ولكننا، نحن العراقيين بشكل خاص، نقدّر ظروفه التي قد تكون سببا كبيرا في إقدام ترامب عليها. فهو بهذه الصفقة الظالمة غير العادلة إنما يريد أن يفي بوعده الذي قطعه على نفسه من قبل أن يفوز بالرئاسة، فيدفع الباقي من الثمن ليهود الولايات المتحدة ولإسرائيل، بعد قراره السابق بنقل السفارة الأميركية إلى القدس.
أما لماذا هذه الصفقة، ولماذا الآن، فذلك لشراء الرضا اليهودي الأميركي في مواجهة خصومه الديمقراطيين، ولضمان إخراجه من مأزق العزل، ثم معاونته على الفوز في الانتخابات القادمة.
فخطته في حقيقتها تخويل حقيقي كامل بضم القدس، موحدة ونهائيا، والضفة الغربية إلى الدولة اليهودية مقابل بقعة فلسطينية محاصرة ومبعثرة الأوصال، تديرها إسرائيل وترسم شكلها وحدودها وطبيعتها كما تشاء، وهذا قهرٌ يصعب علينا تأييده أو قبوله، ولكن العقل والواقع يفرضان علينا اختيار الصمت لسببين.
الأول لأن لا خيار للعراقيين، وربما لعرب آخرين كثيرين، مواطنين لا حكومات، سوى الصمت، رغم مرارته وما يشكّله من إهانة قومية من الوزن الثقيل، ويعتبره العراقي الوطني الشريف ظلما لشقيقه الفلسطيني جاوز جميع الحدود، ولكن لا بديل عن هذا الصمت سوى دعم المقاومة وتأييدها في مقاتلة إسرائيل بالوسائل المتاحة. ولكن ماذا تستطيع هذه المقاومة أن تفعله، خصوصا وأنها، بشكل أو بآخر، محسوبة على إيران وعلى حزب الله اللبناني، وهو ما يجعلنا لا نؤمن بجديتها ونزاهتها؟
الثاني هو أن ما فعلته إيران، ومعها طوابيرها العراقية وميليشياتها، لا يترك في قلب المواطن العراقي، والعربي أيضا، سوى تأييد ترامب في محاصرته للنظام الإيراني ووكلائه. ولولا سياساته الخانقة الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي يصرّ على التمسك بها إلى أن يجبر النظام الإيراني على الرضوخ لشروطه التي يهمنا منها، نحن العراقيين والعرب المكتوين بشرور هذا النظام الإرهابي العدواني، شرطه أن يتخلّى هذا النظام عن تدخلاته في الدول المجاورة، وخاصة في العراق.
بعبارة أخرى، إن إيران بما فعلته بنا، من أربعين سنة وإلى اليوم، وما تفعله اليوم، من قهر ونهب وتخريب وإرهاب وفساد وإفساد، تصبح أولوية لدينا تفوق ضرورتُها قضية فلسطين أو أي قضية عربية وإسلامية أخرى، مهما كانت كبيرة ومحورية ومن أي وزن وأي نوع.
يعني، وبالقلم العريض، أن نظام الملالي الإيراني يحرم الشعب الفلسطيني من نجدة أشقائه العراقيين واللبنانيين والسوريين، ومن حرارة حماسهم السابق في مشاركة الفلسطينيين معاركهم ضد الاحتلال.
وقد يفاجأ المواطن الفلسطيني بأن أشقاءه، عرب العراق وسوريا والأردن ولبنان ومصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب ودول الخليج العربي، لم ينتفضوا ولم يتظاهروا ضد الصفقة، وتركوا الخلق للخالق، وكأنهم يكتفون بالفرجة على حفل إعلان الصفقة على شاشات التلفزيون، وكأن ما يجري ليس في أرض عربية، بل في مجاهل أفريقيا أو بلاد الواق واق.
فلم يشهد التاريخ مثالا لهذا البرود الجماهيري العربي في ما يخص فلسطين، أبدا وقطعيا ودون جدال. فقد كانت الأرض العربية، كلها، من المحيط إلى الخليج، تشتعل غضبا، وتخرج جماهيرها، بعفوية نادرة، وبحماس غير مفتعل، عن بكرة أبيها هاتفة بموت إسرائيل، ومطالبة حكوماتها بفتح باب التطوّع لقتالها، فقط حين تمس حكومة إسرائيل شجرة أو شبرا من أرضٍ فلسطينية، أو حين يعتدي جندي من جنودها، أو واحد من مستوطنيها، على رجل أو امرأة في قرية من قرى فلسطين.
فبعد أربعين عاما من جرائم القتل والذبح والحرق والاغتيال والتفجير والتهجير التي ارتكبها النظام الإيراني، مباشرة بجيشه أو حرسه الثوري، أو بواسطة ميليشياته اللبنانية والعراقية والسورية واليمنية والبحرينية والفلسطينية، راحت حرارة غضب الجماهير العربية تبرد، وسخونة ثورتها تخف، وتسكت ولا تتكلم، ولا تخرج من ديارها متظاهِرةً مطالبة بالثورة، كما كانت، وهي ترى وتسمع الأخبار المحزنة التي تتحدث عن اعتداء جنود ومستوطنين يهود على مواطنين فلسطينيين، ومصادرة أرضهم، وإهانة كراماتهم، واغتصاب أرزاقهم، وذلك لأنها صارت ترى همومَها وعذاباتها وآلامها وأحزانها ومآتمها التي يصنعها “المجاهدون” الخمينيون وميليشياتُهم أكبر وأخطر من أي شيء آخر.
بعبارة أخرى لقد صارت الجماهير العربية ترى أن إيران التي تحتلُّ بلادها وتقتل وتنهب وتُخرب وتغتال وتُفجر، كل يوم وكل ساعة، جعلت مظالم اليهود تبدو أقلّ ضررا وأخفّ وأهون.