نجاح فريق 8 آذار بتشكيل حكومة اللون الواحد ولّد انطباعاً انّ هذا الفريق ما زال متماسكاً خلافاً لفريق 14 آذار الذي تفكّكت مكوناته وابتعدت بعضها عن بعض، فيما تشكيل الحكومة لم يكن موجّهاً حقيقة ضد 14 آذار، إنما كل الهدف منه كان حفاظ فريق 8 آذار على مكتسباته السلطوية، مع شعوره بأنّها باتت مهدّدة من طرفين: الناس الثائرة في الشارع، والأزمة المالية الخانقة. وبدلاً من ان يتراجع هذا الفريق ويراجع خطواته، قرّر ان يتقدّم في اتجاه التشكيل، ولو منفرداً، وعلى طريقة تكنوقراط، بغية أن يواصل من خلالهم الإمساك بناصية القرار والوزارات، ولو كانت الكلفة التضحية بالوجوه السياسية، ولكن هذه الكلفة تبقى أقل بكثير، بالنسبة إليه، من تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلّين يخسر معها الوجوه السياسية وسلطة القرار.
وما تقدّم، يعني انّ فريق 8 آذار قرّر أن يلعب «صولد» لسببين أساسيين: لأنّه لا يريد التفريط بمكتسباته السلطوية التي تعلو في نظره ولا يُعلى عليها، ولأنّه يثق بقدرته على السيطرة على الأزمة المالية، وفي أسوأ الحالات التعايش معها في حدود مقبولة. ولكنه في المقابل وضع نفسه في مواجهة مباشرة مع الناس ومع أزمة مالية، بالكاد حكومة طوارئ بغطاء من جميع اللبنانيين قادرة على مواجهتها، فكيف بالحري بحكومة من لون واحد؟
وليس عن عبث حاول «حزب الله» جاهداً ان يتمسّك بالرئيس سعد الحريري خلافاً لإرادة حليفه الرئيس ميشال عون، تجنباً لتشكيل حكومة من لون واحد، يصبح فيها في مواجهة مباشرة مع الداخل والخارج، ويتحوّل فيها فريق 14 آذار إلى موقع المتفرِّج على أزمة ومواجهة وضع نفسه في منأى عنهما.
ولا شك انّه في حال نجاح 8 آذار في التصدّي للأزمة المالية، يستطيع ان يخرج إلى اللبنانيين ليقول، إنّ الفريق الآخر كان يعرقل خطواته، وانّ تفرّده بالقرار أتاح له تحقيق ما تطلبه الناس، الأمر الذي يمكنه من أن يتسلّم دفة الحكم لسنوات مديدة، ولكن فرص نجاحه ضئيلة جداً، وبالتالي سيتحمّل تبعات فشله، خصوصاً انّ نأي مكونات 14 آذار بنفسها ومن دون تنسيق هذا الموقف بين بعضها في ظل العلاقات الباردة بين مكوناتها، وضعه في مواجهة شريحة جديدة من اللبنانيين كانت حتى الأمس القريب لا تميِّز بين 8 و14 آذار.
فشعار «كلن يعني كلن» سيبقى شكلياً، ولكنه انتقل في الواقع مع تشكيل الحكومة إلى مواجهة بين الناس المنتفضين وفريق 8 آذار، ويستطيع اي خبيث في السياسة ان يقول انّ هذه الهندسة السياسية هي نتاج تقاطع ضمني بين مكونات 14 آذار، من أجل ان تحيِّد نفسها وتجعل سقوط خصمها بالضربات الموجعة او الضربة القاضية عن طريق غيرها. ولكن الحقيقة ليست كذلك، لأنّ التنسيق بين هذه المكونات غير قائم، فيما الأزمة القائمة هي نتاج سوء إدارة فريق 8 آذار، الذي أوصل بفعل سياساته السيئة البلد إلى الكارثة، كما انّ تمسّكه بالسلطة، ولو كان ينمّ عن مجازفة، يمكن ان يقود إلى الانهيار الشامل وتحميله مسؤولية هذا الانهيار.
فقوى 14 آذار، غير الموحّدة اليوم، هي أفضل حالاً من قوى 8 آذار الموحّدة، لأنّه على عاتق الأخيرة إخراج لبنان من الأزمة المالية، الأمر الذي يعدّ بمثابة معجزة، وهذا ما دفع النائب جبران باسيل إلى التبرؤ من تسميته للوزراء تجنباً لتحمُّله انعكاسات الفشل، إلّا انّ رئيس تيّار «المردة» سليمان فرنجية، فضح علناً محاولات باسيل الحصول على «الثلث المعطِّل»، كما انّ الناس الذين وجدوا أنفسهم في أسوأ وضع معيشي، لن يكون في استطاعتهم تفهُّم ما طلبه منهم الرئيس ميشال عون، لجهة انّ «الإجراءات التي ستُتخذ ستكون قاسية وربما موجعة ما يتطلب تفهُّم المواطنين لهذا الأمر».
فالناس لن يتفهموا ولا يستطيعون أساساً ان يتفهّموا الإجراءات القاسية لثلاثة أسباب أساسية: بسبب سوء اوضاعهم، وبسبب انعدام ثقتهم بهذا الفريق السياسي الذي أوصل البلد إلى الكارثة، وبسبب عدم إشراكهم في الحلّ، من خلال تبنّي وجهة نظرهم بضرورة تشكيل حكومة بعيدة عن تأثير القوى السياسية التي يحمِّلونها مسؤولية الانهيار الحاصل.
ففي هذا المشهد، ما على مكونات 14 آذار السابقة سوى ان تتفرّج على خصمها التاريخي يتخبّط في مواجهة الناس والأزمة المالية. وليس مطلوباً منها إطلاقاً إعادة توحيد صفوفها، في اعتبار انّ عنوان الأزمة في مكان آخر، ولكن لا يجوز في المقابل ان تواصل افتراقها إلى حد الخلاف والقطيعة، بل عليها هذه المرة ان تنتظر الوقت المناسب والملائم من أجل ان تقود مع الناس مبادرة إنقاذ لبنان.
وأكبر خطيئة تاريخية ترتكبها هذه القوى، إذا أضاعت فرصة إنقاذ لبنان بالتلهي في خصوماتها الداخلية، كما أكبر خطيئة ترتكبها في حال تجاوبت مع بعض الرؤوس الحامية في تقديم العنوان السياسي على المعيشي، الأمر الذي لن يحصل أساساً لمجموعة أسباب واعتبارات وفي طليعتها، كون العنوان السياسي كفيل بعودة الانقسام التقليدي وضرب دينامية الناس المنتفضين، فضلاً عن انّ النتيجة ستكون نفسها بالوصول إلى الدولة التي يريدها الناس، والوصول إلى هذه الدولة سيكون هذه المرّة من الباب المعيشي لا السياسي.
فقوى 14 آذار هي في أفضل وضعية لها منذ العام 2005، وهذا لا يعني تحريض الفريق الآخر عليها، كما لا يعني انّ جهودها أثمرت في هذا الاتجاه لأنّها دخلت منذ فترة طويلة في غيبوبة، إنما مجرد محاولة لتظهير الوقائع كما هي عليه، في ظل إرباك غير مسبوق لمحور الممانعة على مستوى الإقليم، بفعل المواجهة الأميركية - الإيرانية، وإرباك كبير على مستوى الداخل بفعل وعي الناس ويقظتهم. ولا ينفع مع وضع من هذا النوع ان يذهب «حزب الله» في المواجهة إلى الأمام، لأنّ أي تسعير للنزاع سيؤدي إلى سقوط الهيكل الذي يقف على «صوص ونقطة».
وفي مطلق الحالات، المبادرة ليست في يد 14 آذار، إنما في يد الناس. وجلّ ما هو مطلوب منها في هذه المرحلة ان تحيِّد نفسها عن المواجهة بين الناس والفريق الحاكم. وانتصار الناس لا يعني انتصار 14 آذار وتربّعها على سدة السلطة مجدداً، إنما انتصار منطق «العبور إلى الدولة»، ولكن بنهج جديد يختلف عن النهج الذي مارست فيه الحكم في حكومات ما بعد خروج الجيش السوري من لبنان.