ثمّة حلقة ضائعة في كلّ ما رافق النقاش الدائر في شأن موازنة الدولة اللبنانية التي أقرّها مجلس النواب أخيرا، وذلك بغض النظر عمّا إذا كانت هذه الموازنة، التي أقرتها الحكومة السابقة وتبنتها الحكومة الحالية، ما زالت تستجيب للتغيّرات التي طرأت على الوضع اللبناني منذ السابع عشر من تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي تاريخ اندلاع الثورة الشعبية.
تتمثّل هذه الحلقة في غياب النقاش الحقيقي الآخر الذي يفترض أن يدور بين اللبنانيين. إنّه نقاش متعلّق بسلاح “حزب الله” ودوره في جعل الوضع اللبناني وضعا غير طبيعي. لم يعد لبنان بلدا طبيعيا منذ العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم مع منظمة التحرير الفلسطينية. بقي لبنان بلدا غير طبيعي بعد حلول السلاح الإيراني غير الشرعي مكان السلاح الفلسطيني ابتداء من العام 1982 حين سهّل النظام السوري دخول الدفعة الأولى من “الحرس الثوري” الإيراني إلى لبنان.
تحدّث نواب لبنانيون في جلسة مناقشة مشروع الموازنة عن كلّ شيء، باستثناء عن دور الحزب الذي يتحكّم بالقرار اللبناني والذي نقل لبنان إلى مكان آخر أدّى، في طبيعة الحال، إلى الانهيار الذي يعاني منه البلد اليوم. لو لم يصبح لبنان في مكان آخر، في المحور الإيراني، لكان هناك موقف عربي مختلف من لبنان ولكانت لدى الإدارة الأميركية مقاربة مغايرة لتلك السائدة حاليا بعد انتصار الجناح الذي يدعو في واشنطن إلى ترك لبنان لمصيره.
في المقابل، هناك وضع عراقي يشبه إلى حدّ كبير الوضع اللبناني من زوايا عدّة بعدما نزل الناس العاديون إلى الشارع في مختلف المناطق العراقية منذ أربعة أشهر يطالبون فيها بإصلاحات جذرية على كلّ صعيد. هناك حلقة عراقية ضائعة أيضا. لكنّ هذه الحلقة لا تشبه الحلقة اللبنانية الضائعة. يكمن الفارق بين لبنان والعراق في أنّ العراقيين يتحدّثون علنا عن إيران ودورها التخريبي في العراق، فيما يستنكف اللبنانيون عن ذلك إلى حدّ ما. لا يوجد سوى قلّة بين اللبنانيين تعرف، تماما، مكمن الداء وأنّه في التغاضي عن سلاح لحزب لبناني هو عبارة عن ميليشيا مذهبية تشكّل لواء في “الحرس الثوري” الإيراني.
العراقيون يعرفون ويتحدثون عمّا يعرفونه بالفم الملآن. اللبنانيون يعرفون، لكنهم يجانبون قول الحقيقة.
لا يخفي هذا الاختلاف بين اللبنانيين والعراقيين نقاط التقاء عدّة بينهما. في مقدّم هذه النقاط أن الحكومة في لبنان والعراق باتت تشكّلها إيران. تشكلت في لبنان حكومة جديدة برئاسة حسّان دياب عاجزة كلّ العجز عن القيام بأيّ خطوة إنقاذية من أيّ نوع في ظل الغليان في الشارع، وفي ظلّ الانحياز اللبناني الرسمي إلى “الجمهورية الإسلامية”. ما دفع إيران إلى الضغط من أجل تشكيل هذه الحكومة، برئاسة شخصية لا رصيد لها يذكر في داخل طائفتها، الحاجة إلى إثبات أن لبنان ما زال ورقة في جيب طهران.
في العراق، استقالت حكومة عادل عبدالمهدي في آخر تشرين الثاني – نوفمبر الماضي، بعد شهرين من بدء الثورة الشعبية على الاستعمار الإيراني. ليس سرّا أن معظم المنتفضين في مناطق شيعية وذلك بعدما فضّل السنّة والأكراد عدم زج أنفسهم في المواجهة بين شيعة العراق العرب والميليشيات العراقية التي هي في واقع الحال ميليشيات إيرانية تعمل تحت تسمية “الحشد الشعبي”. لم تستطع إيران، إلى الآن، فرض شخصية تناسبها تخلف عادل عبدالمهدي الساعي بكلّ الوسائل إلى إعادة تسويق نفسه.
الأهمّ من ذلك كلّه، أن ما يجمع بين لبنان والعراق هو الموقف الواجب اتخاذه من الإدارة الأميركية التي كشّرت مطلع هذه السنة عن أنيابها، وعملت على تصفية قاسم سليماني قائد “لواء القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني والمفوّض السامي الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وحتّى اليمن. هناك ضياع لبناني وعراقي. في أساس هذا الضياع كيفية التعاطي مع إدارة أميركية قرّرت الذهاب إلى النهاية في تغيير سلوك إيران بعد التخلّص من كذبة الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني. ما يبرّر هذا الضياع اللبناني والعراقي ذلك الوجود الإيراني الطاغي والضاغط على أرض البلدين.
تمتلك إيران وسائل تخويف وترهيب لا مثيل لها إنْ في لبنان أو في العراق. أثبتت في السنوات القليلة الماضية إلى أيّ حد تستطيع الذهاب في استخدام هذه الأدوات. في النهاية، يعرف اللبنانيون تماما من اغتال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. كذلك، يعرفون تماما من نفّذ كلّ الجرائم الأخرى في حقّ مجموعة من الشخصيات اللبنانية، ومَنْ وراء حرب صيف العام 2006، ومَنْ وراء الاعتصام الطويل في وسط بيروت من أجل خنق الاقتصاد اللبناني ومن وراء غزوة العاصمة اللبنانية والجبل في السابع من أيّار – مايو 2008. أكثر ما يعرفه اللبنانيون أن “حزب الله” صار في السنوات الأخيرة يقرّر من هو رئيس الجمهورية المسيحي، وصار يختار رئيس مجلس الوزراء السنّي، في حين رئيس مجلس النواب الشيعي حليفه. أمّا العراقيون، فيعرفون قدرة أدوات إيران على القمع وعلى التصفيات وعلى ممارسة عمليات التنظيف ذات الطابع المذهبي بما يخدم مصالح طهران.
إذا أخذنا في الاعتبار تجارب الماضي القريب، خصوصا المراعاة الأميركية لإيران في عهد باراك أوباما، يبقى الخوف من أي تغيير في الموقف الأميركي هاجسا لبنانيا وعراقيا. لكنّ ذلك لا يمنع من الاعتراف، بكلّ بساطة، بأن هناك شجاعة لدى العراقيين أكبر بكثير من الشجاعة التي يمتلكها قسم كبير من اللبنانيين دفعوا في الماضي ثمن الرهان على السياسة الأميركية.
في النهاية، هل يمكن الرهان على الموقف الأميركي؟ الجواب أنّ على اللبنانيين والعراقيين أن يأخذوا في الاعتبار أن إيران ما زالت تكابر. ترفض الاعتراف بأنّ فشلها يعود إلى إفلاسها سياسيا واقتصاديا، وأن العقوبات الأميركية أدّت مفعولها، وأن اغتيال قاسم سليماني كشف أنّ ليس في استطاعتها الردّ على أميركا متى تقرّر أميركا اعتماد الجدّية فعلا. هذا لا يمنع الاعتراف بأنّ بلدين مثل لبنان والعراق سيعانيان كثيرا في الأسابيع المقبلة. يعود ذلك إلى أن “الجمهورية الإسلامية” لا تعرف أن التعاطي مع الخسارة في السياسة أهمّ بكثير من التعاطي مع الربح. أن تعرف كيف تخسر أهمّ بكثير من أن تعرف كيف تربح. إيران التي لا تعرف كيف تخسر تفضّل خوض حروبها خارج أرضها وبواسطة الآخرين. هذا ما يفسّر إلى حدّ كبير ما يعاني منه حاليا بلدان مثل لبنان والعراق…