بكل المعايير والمقاييس أصبح يوم السبت الخامس والعشرون من يناير 2020 يومَ الغدر الأكبر الذي لن ينساه العراقيون.
فقد كان مفصلا تاريخيا يُعلن نهاية مرحلة من مراحل نضال الشعب العراقي التشريني من أجل انتزاع الحرية والعدالة والاستقلال، وبدايةَ مرحلة أخرى جديدة لا مكان فيها لأي أمل ولو ضئيل، في إمكانية هبوط الرحمة والوطنية على قلوب قادة حكومة الميليشيات فتجعلهم يتخلون عن غرورهم وأنانيتهم ومكاسبهم، طواعية وببساطة، فيتمردون على أوامر السلطان القابع وراء الحدود، وينفذون مطالب المنتفضين.
وفي هذا اليوم الأسود تحقق الفرز النهائي بين الشعب العراقي المنتفض على الفساد والدكتاتورية والعمالة للأجنبي، وبين أعدائه، إسماعيل قاآني وهادي العامري وقيس الخزعلي ومقتدى الصدر وعادل عبدالمهدي، وباقي شركائهم في الحكومة والبرلمان.
فالذي حدث يوم السبت الماضي وما بعده، يعني أن النظام الإيراني قد يئس وأيقن باستحالة تفتيت الانتفاضة من داخلها، سواء بتسلل جماعة مقتدى الصدر إليها لاحتوائها وحرفها عن أهدافها الثابتة وإفراغها من مضمونها الوطني المطالب بالحرية والعدالة والاستقلال والخلاص من الوصاية الأجنبية الإيرانية والأميركية، أو بسياسة المماطلة والتسويف والترهيب والترغيب، أملا في الوصول إلى هدف إحباط الجماهير المرابطة، ومللها، ثم انفضاضها وتَفرّقِ جموعها، دون اضطرار الحكومة وجيوشها وميليشياتها إلى خوض حرب عسكرية و”أمنية” شاملة لا تُعرف نتائجها، ولا يمكن التنبؤ بتداعياتها السياسية المحلية والإقليمية والدولية المحتملة.
وبإقدام جيش الحكومة وقواتها “الأمنية” على حرق خيم المعتصمين في بغداد والناصرية، وقتل المتظاهرين الناشطين منهم، أو اختطافهم، أصبح جليّا وبلا رتوش أن المكلفين بالدفاع عن الاحتلال الإيراني للعراق لا يملكون القدرة على تعيين رئيس وزراء مستقل، ولا على تعديل قانون الانتخاب وإصداره، ولا على تحديد موعد انتخابات جديدة، لا الآن ولا غدا ولا بعد سنين.
ومع الأسف الشديد فإن هذا الواقع المعلن الجديد يضع المنتفضين المُصرّين على العودة إلى أماكن تجمعاتهم في بغداد والمحافظات الأخرى أمام تحديات خطيرة تكون مواجهتُها بالسلمية وبالأغاني والأناشيد والهتاف وانتظار هبوط المنّ والسلوى من السماء، أشبه بالقبول بالموت البطيء والانتحار.
واقعيا وعمليا ليس هناك من حل أفضل من المبادرة العملية المبتكرة التي اقترحها الدكتور علاء الركابي، أحد القادة المنتفضين في الناصرية، وهي الأسلم وأكثر وفاءً لهذا الوطن ولأرواح شهدائه التشرينيين الكرام.
وتتلخص مبادرة الركابي بإطلاق مسيرة شعبية سلمية تبدأ يوم الجمعة القادم من البصرة، سيرا على الأقدام، ولا يحمل المشاركون فيها سوى الأعلام العراقية أو شدات الورود، ثم تلتحق بها جماهير الناصرية والعمارة والكوت وباقي المحافظات والمدن التي تمرّ بها المسيرة، وصولا إلى بغداد، لمحاصرة المنطقة الخضراء، وإعطاء القيادات الحكومية والبرلمانية مهلة محددة بيوم الخامس عشر من فبراير القادم لتعيين رئيس وزراء مستقلّ، يُوصلُ العراقيين إلى صناديق الاقتراع، وإقرار قانون الانتخاب الجديد، وتحديد موعد الانتخابات المبكرة المنتظرة.
والحقيقة أن الواقع الجديد الذي تمخض عنه يوم السبت الأسود الماضي لم يترك أمام الشعب العراقي سوى الكي، وهو آخر دواء.
ومن دون هذه الخطة الجريئة “المخيفة” سيبقى المتظاهرون أهدافا سهلة لقنابل جيوش السلطة، ولرصاص الملثّمين المكلفين باصطيادهم واحدا بعد واحد، واغتيالهم أو اختطافهم، وستذهب تضحياتُهم الجليلة الغالية السابقة واللاحقة سدىً ثمنا لسذاجة قياداتهم التي تبالغ كثيرا في سلمية الرفيق غاندي، والتي لا تأمر إلا بالاستسلام للموت المجاني المعيب.
إذن فموعدنا الأول يوم الجمعة القادم يوم انطلاق المسيرة، وموعدنا الثاني يوم الخامس عشر من فبراير. هذا أو الخراب العظيم.