كل استنكار للتوطين الفلسطيني في لبنان يمكن أن يصدر عن أحد أركان الطبقة السياسية الفاسدة، يمكن اعتباره كاذباً، بل يُراد منه التغطية. فهذه الطبقة هي التي أفقدت لبنان مناعة يمكن أن تَحميه أو تُحسِّن شروطه لمواجهة المساومات الكبرى الآتية إلى الشرق الأوسط.
يذهب البعض إلى السؤال: هذه الطبقة تعرف جيداً أنّ فسادها المتمادي خلال عشرات السنين سيوصل إلى الانهيار، وأنّ لبنان سيكون رهينة القوى الخارجية في هذه الحال. إذاً، فلماذا لم تبدِّل نهج الفساد؟
الجواب، وفق هؤلاء: إمّا أنّ أركان هذه الطبقة اندفعوا بنحو أعمى وراء منافعهم الشخصية ولم يفكروا في المصالح الوطنية، وإمّا أنّ هؤلاء - أو بعضهم على الأقل- منخرطون في المخططات الكبرى أو مستسلمون لها. وقد يكون انخراطهم بعلمٍ منهم أو بجهل أو بتجاهل. وفي كل الحالات، هم يتحمّلون المسؤولية عن وصول البلد إلى مأزق كياني خطِر.
على مدى عقود، كانت تصدر تحذيرات مقرونة بالوقائع والقرائن والبراهين، ومدعومة بالأرقام، من أنّ إسرائيل لن تقرّ بحق العودة إلّا لأعداد محدّدة ومحدودة من النازحين الفلسطينيين. وتالياً، في التسويات النهائية، سيتم توطينهم في بلدان الشتات، ومنها لبنان.
ومنذ مطلع التسعينات من القرن الفائت، سمع اللبنانيون أنّ فلسفة العديد من القوى السياسية التي أمسكت بالسلطة هي الآتية: فلنرفع مستوى الإنفاق إلى الأقصى، ولا مشكلة في ارتفاع مستوى الدين لأن التسوية في الشرق الأوسط باتت قريبة، والقوى الدولية والعربية ستسدّد كل ديون لبنان مقابل دخوله التسوية وموافقته على التوطين.
وهذا النهج ساهم في التغاضي عن بناء اقتصاد حقيقي. واقتضى «شبه اقتصاد» تَغْلُب فيه الريعية، حيث الارتكاز للمضاربات العقارية والمالية والمصرفية، في ظل سيطرة تامة للنافذين على الدولة ومؤسساتها التي استبيحت كلياً وتمَّ تصحيرها، وتسلّط على القضاء، وتواطؤ على القانون والدستور، وشلل مقصود في مؤسسات الرقابة والمحاسبة.
وما يستثير أخطر الشكوك بخلفيات الفساد هو الآتي: منذ بداية العام 2018، خلال التحضير لمؤتمر «سيدر»، تبلَّغ لبنان من أصدقائه، ولاسيما منهم فرنسا عبر موفدها الرئاسي بيار دوكان، أنّ عليه اعتماد إصلاحات طارئة ليتجاوز المأزق. وقد طرح أفكاراً عدة في هذا الشأن، لكنّ أركان السلطة لم يستجيبوا.
وبعد المؤتمر، في نيسان، بذل دوكان جهوداً مضنية لإقناع طاقم السلطة بالتزام الحدّ الأدنى شرطاً لتحصيل المساعدات. لكن شيئاً من ذلك لم يتحقّق. وحتى موازنة 2019 غاب عنها الإصلاح بذريعة أنّ الوقت لم يسمح، مع وعدٍ بالالتزام في موازنة 2020 المجهولة الهوية والمصير.
اليوم، وصل «حَبْل الكذب» إلى نهايته. وفيما دخل لبنان في الانهيار، يتمادى أركان السلطة في نهجهم. وفيما قدّمت انتفاضة 17 تشرين الأول فرصة ثمينة للتغيير، يمضي هؤلاء في المخادعة ويُصرّون على إغراق البلد.
كل هذا فيما الشرق الأوسط يدخل لحظة تاريخية، وفيها يواجه لبنان 3 تحديات يعجز فيها عن قول كلمة «لا»، وهي:
1- النزاع الأميركي - الإيراني وانخراط لبنان فيه.
2- النزاع الدولي - الإقليمي على مخزونات الغاز والنفط في المتوسط.
3- تداعيات «صفقة القرن» سياسياً، ولكن أيضاً في ملف النازحين الفلسطينيين.
هنا يمكن العودة إلى نهايات حزيران الفائت، إلى ورشة البحرين الاقتصادية، التي كان يُراد منها تحضير الأموال لـ«صفقة القرن»، وكما أُعلِن آنذاك، تجهيز خطة اقتصادية قيمتها 50 مليار دولار للأراضي الفلسطينية والأردن ومصر ولبنان، يجري إطلاقها بالتوازي مع تطبيق الشقّ السياسي من الخطة.
وهذه المبالغ ستخصّص للتنمية في هذه الدول، وستكون حصة كل طرف خاضعة للمساومات. ووفقاً لمبدأ العرض والطلب، مَن سيحظى بالحجم الأكبر هو الأقوى اقتصادياً وسياسياً لأنه الأقدر على المناورة. وهنا يبدو لبنان في القعر، لأنه منهار ويحتاج إلى الدعم بشكل خانق.
خلال المؤتمر، ألمَح جاريد كوشنر، مستشار الرئيس دونالد ترامب المكلَّف «صفقة القرن»، إلى أنّ الخطة الأميركية قد تدعو إلى توطين دائم للاجئين الفلسطينيين في الأماكن التي يقيمون فيها، بدلاً من عودتهم إلى أراضٍ أصبحت الآن في إسرائيل.
وعندما سُئل عن إمكان أن توافق الدول العربية المضيفة للاجئين على بقائهم في صورة دائمة مقابل التمويل، قال إنّ هذا الملف سيبحث لاحقاً. وفي تقديره أنّ الشعب اللبناني سيودّ أن يرى حلاً عادلاً لقضية اللاجئين، الذين هم أيضاً سيريدون موقفاً يوفّر لهم الحقوق وعيش حياة أفضل.
واللافت أنّ ملف اللاجئين قد يُربَط بمسألة اليهود الذين نزحوا من دول شرق أوسطية في العام 1948 إلى إسرائيل، إذ قال كوشنر: «في البداية خرج 800 ألف لاجئ يهودي. وفي المقابل، هناك نحو 800 ألف لاجئ فلسطيني، والعالم العربي لم يستوعب الكثير منهم. وهذا الأمر يلتقي مع العرض الذي لطالما تقدَّم به رئيس حكومة تصريف الأعمال في إسرائيل بنيامين نتنياهو، والقاضي بتبادل ديموغرافي بين اللاجئين اليهود والفلسطينيين.
إذاً، مع إعلان «صفقة القرن»، سيواجه لبنان تحديات حقيقية، وخصوصاً في ملفات الغاز والحدود البحرية والبرية مع إسرائيل وسوريا والتسوية السياسية والنازحين الذين تقدِّرهم «الأونروا» بأكثر من نصف مليون، فيما حصَرَهم تقرير دائرتَي الإحصاء اللبنانية والفلسطينية عام 2017، بـ174 ألفاً.
وهذا الاختلاف يعيد إلى الأذهان ما قالته في القدس المبعوثة الأميركية السابقة إلى الأمم المتحدة نيكي هيلي، في حزيران، ومفاده أنّ لدى واشنطن إحصاءها الخاص لعدد اللاجئين الفلسطينيين. وأنّ العدد الفعلي سرّي، ويعمل عدد من الأشخاص لرفع هذه السريّة.
لقد آن الأوان ليعرف الجميع أنّ «الفساد البلدي» شَكّل مصلحة أساسية لإضعاف لبنان في مواجهة التحديات الخارجية الخَطرة. وعلى المستفيدين من انهيار لبنان أن يشكروا طبقة الفاسدين على هذه الخدمة التاريخية، سواء أدّوها قصداً أو بغير قصدٍ منهم.