«لقد مات لتعيش إيران!»، هذا هو الشعار الملحق بكثير من الملصقات والقمصان التي توزع حالياً في طهران أثناء استعداد الجمهورية الإسلامية لإحياء ذكرى مرور أربعين يوماً على مقتل الجنرال قاسم سليماني، وذلك وفقاً لتقاليد الحداد الديني في البلاد.
وأياً كان من صاغ هذا الشعار الغريب؛ يبدو أنه على غير اطلاع كافٍ على الأدوات الأدبية في اللغة الفارسية، لا سيما أداة «الإيهام أو التورية أو المقصد المزدوج»، تلك التي تمكن الشاعر أو الكاتب من أن يقول شيئاً ربما يبدو كما لو أنه يقصد شيئاً أو معنى آخر به.
وربما أن مؤلف شعار طهران المذكور كان يأمل في إقناع المواطنين الإيرانيين بأن الجنرال سليماني قد ضحى بنفسه بصورة من الصور من أجل ضمان استمرار وجود إيران وبقائها. ومع ذلك، يمكن أيضاً قراءة الشعار بأنه يوحي ببيان مقصده أنه لكي تبقى إيران على قيد الحياة كان من الضروري رحيل قاسم سليماني.
ويتخذ الشعار الإيراني منحى منطقياً وفق القراءة الثانية، على الرغم من أنه سوف يكون من الخطأ الفادح قصر القراءة على شخص الجنرال سليماني. وبعد كل شيء، لم يكن قاسم سليماني - رغم براعته السياسية ودهائه في إدارة العلاقات العامة - من المخترعين الإيرانيين الأفذاذ أو أحد كبار صناع القرارات الإيرانية الحيوية في الاستراتيجية التي أسفرت عن استشراف إيران حافة الهاوية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وبالتالي، ولكي تستمر إيران على قيد الحياة، وربما بلوغ قدر من الازدهار كما تحلم، فلا بد للمرء من أن يأمل ويدعو من أجل نهاية الاستراتيجية التي كان قاسم سليماني فتاها الأول بلا منازع.
ولقد بُنيت هذه الاستراتيجية على ثلاثة أوهام كبرى.
أول هذه الأوهام أن إيران كدولة متحدة تماماً وراء نظام الخميني النضالي، وهي على استعداد دائم لمواجهة وتحمل الفقر، والظلم، وربما الاضطهاد والقمع من أجل الحفاظ على الثورة واستمرارها على قيد الحياة. لكن، وعبر السنوات القليلة الماضية، تعرض هذا الخيال الواهم للاختراق الشديد على أيدي الاحتجاجات المستمرة، والإضرابات، وما يشوبها من اضطرابات اجتماعية وسياسية وأمنية على مختلف المستويات في أرجاء الجمهورية الإسلامية كافة. وللمرة الأولى في تاريخ إيران الطويل، تشهد البلاد انتفاضات متزامنة في أكثر من 100 مدينة وبلدة تضم مواطنين من مناحي الحياة كافة ومن جميع الخلفيات الاجتماعية والآيديولوجية المتنوعة.
نحن لا نعرف على وجه التحديد مستوى الدعم الدقيق الذي لا يزال يحظى به نظام الخميني في إيران، ولن يكون ذلك ممكناً إلا إذا أجريت الانتخابات في مناخ من الحرية والتعددية؛ الأمر المفقود وغير المعهود في إيران منذ أربعة عقود. لكن حتى المدافعون عن النظام الحاكم يعترفون الآن بأن قاعدة الدعم الخمينية في البلاد سقطت في بوتقة الانصهار.
والخيال الواهم الثاني الذي تستند إليه النخبة الحاكمة في طهران يتعلق بما كان يروّج له قاسم سليماني بنفسه، من أن العالم الإسلامي، وربما العالم بأسره، متعطش إلى حد كبير إلى الزعامة والقيادة والإرشاد، إن لم تكن السيطرة الكاملة، من جانب طهران، ويعدّون المرشد علي خامنئي المنقذ الأوحد للبشرية من غياهب التيه والضلال.
وكان هذا الوهم الساذج يتغذى عبر السنوات الماضية على الزعماء الأجانب والجماعات الخارجية التي برعت في إعادة إحياء صناعة الإطراء الفارغ والمديح الأجوف ولكن في صورة براقة جديدة.
تبث مختلف وسائل الإعلام في الجمهورية الإسلامية تصريحات رنانة لشخصيات على شاكلة حسن نصر الله زعيم الفرع اللبناني من تنظيم «حزب الله» الإيراني، وإسماعيل هنية من حركة «حماس» الفلسطينية، وعبد الملك الحوثي من صنعاء اليمنية، الذين يكيلون أبلغ آيات المديح والإشادة والثناء على الخميني وبعبارات كانت لتجعل هارون الرشيد نفسه يتوارى خجلاً من ذكرها في مجلسه. وفي خارج العالم الإسلامي، تواصل المنافذ الإعلامية الإيرانية البحث الحثيث عن الشخصيات التي يمكنها ببساطة إقناعهم أو رشوتهم للانضواء تحت زمرة إطعام الوحش الإيراني الكاسر؛ وهو ليس إلا عبادة شخص خامنئي من دون منازع.
ومع ذلك، نعتقد أن هذا الوهم قد بلغ أقصى حدوده الخارجية؛ إذ إن سهولة الوصول إلى كثير من مصادر المعلومات المتعددة مكّن كثيراً من الأفراد من تكوين حكمهم الخاص على أي موضوع تقريباً. وصارت فكرة أن السواد الأعظم من اللبنانيين، والعراقيين، واليمنيين، والسوريين، لا يزالون غارقين في محبة وعشق الجمهورية الإسلامية ومرشدها، من الأفكار التي لا تزال تعشش في مخيلة خامنئي نفسه! لكن الكثير والكثير من المواطنين الإيرانيين يدركون اليوم أن علي خامنئي، والجمهورية الإسلامية بأسرها، قد باعوا الوهم لأنفسهم وللجميع من حولهم.
وقبل عشر سنوات من الآن، انطلق أكثر من نصف مليون إيراني إلى دمشق لزيارة ضريح السيدة زينب. واليوم، ورغم كل شيء، أصبحت السلطات الإيرانية تطلب من الراغبين في الذهاب إلى دمشق الابتعاد قدر الإمكان عن سوريا التي كانوا يفترضون من قبل أن غالبية السوريين فيها يهيمون عشقاً ومحبة للإيرانيين. وهناك وضع مماثل لذلك في العراق المجاور؛ حيث تشيع أكاذيب محبة العراقيين أجمعهم للشعب الإيراني الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجل إنقاذ الأشقاء في العراق من صدام حسين ومن «داعش»!
ومع ذلك، أوقفت السلطات الإيرانية رحلات الزيارة كافة إلى العراق مع فرض تدابير أمنية مشددة على الشركات الإيرانية وعلى المكاتب الحكومية العاملة في المدن العراقية المختلفة. وفي اليمن كذلك، جرى نقل أفراد الجالية الإيرانية بالكامل (نحو 600 شخص) من صنعاء إلى مسقط في سلطنة عُمان وذلك لاعتبارات أمنية، رغم فروض المحبة والوله الشديد التي يكنّها اليمنيون لإيران ولمرشدها! وشرعت مجموعة الدول التي كانت تقبل سفر المواطنين الإيرانيين من دون تأشيرة في إعادة فرض التأشيرات على قدوم الإيرانيين إليها واحدة تلو الأخرى. وبعبارة ثانية، فإن مشروع بناء الإمبراطورية الإيرانية الذي كلّف البلاد مليارات الدولارات؛ والكثير من هذه الأموال أنفق تحت رعاية وإشراف قاسم سليماني، لم ينفع المواطن الإيراني بشيء إلا بمزيد من الشكوك، وربما الكراهية له ولبلاده في مختلف بلدان العالم.
أما الخيال الواهم الثالث في أقصوصة الفتى سليماني وتضحياته المخلصة، فيدور حول أن استراتيجية الجمهورية الإسلامية المتمثلة في «تصدير الثورة»، والتي تعني في واقع الأمر مزيداً من الجنون والفوضى العارمة، تكاد تكون معدومة التكاليف، وبالتالي فإن العالم الخارجي الذي يهتز رعباً من سليماني ومن إيران لن يجرؤ على المعارضة.
وتغذى هذا الوهم الأخير بسخاء كبير على شخصيات عالمية بارزة من أمثال الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وماركيزة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي السابقة فيديريكا موغيريني، اللذين - وبكل نوايا طيبة - كانا يتعاملان مع الجمهورية الإسلامية على أنها صبي مراهق جامح ربما يمكن ترويض سلوكياته العنيفة وتحويلها إلى تصرفات معقولة ومقبولة من خلال حفنة من المرغبات اللطيفة بدلاً من العقاب القاسي.
وتواصل وسائل الإعلام الإيرانية المملوكة للحكومة البحث الحثيث عن أي شيء يمكن أن يساند مزاعمها الواهية في العالم الخارجي، لا سيما في الولايات المتحدة، التي لطالما أزعجونا بارتجافها الشديد في مواجهة الثورة الخمينية القوية ذات البأس الشديد. ومن شأن هذه المساعي أن تسفر عن نتائج سريالية لطيفة. ففي وقت سابق من الشهر الحالي، نشرت صحيفة «كيهان» الإيرانية، المقربة للغاية من المرشد الإيراني، مقالة افتتاحية عن سيدة أميركية تدعى باربرا سلافين؛ تلك التي أعلنت أنها قررت التوقف عن متابعة حساب الرئيس الأميركي على موقع «تويتر» اعتراضاً منها على مقتل الجنرال قاسم سليماني. وزعم الإعلام الإيراني أن موقف المواطنة الأميركية «الجبار» يعدّ بمثابة إشارة إلى أن النخبة الفكرية والثقافية الأميركية قد شرعت في اتخاذ مواقف المعارضة المفتوحة ضد سياسات الرئيس الأميركي الصارمة إزاء الجمهورية الإسلامية في إيران. ومع ذلك، فإن القليل للغاية من المواطنين الإيرانيين يعرفون هذه السيدة الأميركية وما إذا كانت - أو لم تكن - من وجهاء النخبة الفكرية والثقافية الأميركية، أو ما إذا كان موقفها بعدم متابعة حساب دونالد ترمب على «تويتر» قد أصاب الرئيس الأميركي بالذعر والارتجاف!
وعندما يتعلق الأمر بوسائل الإعلام الإيرانية، فإنهم في غالب الأمر يستشهدون بصحافي فلسطيني واحد في المنفى على أنه «أبرز رواد النخبة الثقافية في العالم العربي»، والذي يواصل الإشادة بالجمهورية الإسلامية والثناء على المرشد واصفاً إياه بأنه «أعظم الزعماء في التاريخ الإسلامي الحديث».
وجرى تصميم إحياء ذكرى الأربعين منذ تصفية قاسم سليماني للتأكيد على هذه الأوهام والخيالات والتعظيم من شأنها. وتشير التقارير الإخبارية التي ترد إلينا إلى أن النظام الإيراني يحشد أكبر موارده على الإطلاق للخروج بعرض هائل للغاية في ذكرى مقتل سليماني. وبعبارة أخرى، لا تزال الزمرة المقربة من خامنئي تأبى تماماً التخلي على عالمها الخيالي الحالم... الأمر الذي يعني أن الأنباء الواردة إلينا من الجمهورية الإسلامية ليست بمثل السوء الذي تظنه النخبة الحقيقية في طهران... إنما هي أسوأ بكثير!