في اعتقاد البعض أنّ الحكومة الحالية تترجم رسالة أراد «حزب الله» توجيهها إلى الأميركيين، ومفادها أنه مستعدّ لتقديم مقدار من التنازل على الساحة اللبنانية، على الأقل ظرفياً لإمرار المرحلة. وهذا يعني عملياً مراعاة الرغبة الأميركية بإبعاد لبنان بدرجة «معقولة» عن نفوذ إيران الإقليمي، أو بالأحرى تجميد الغرق أكثر في هذا المحور خلال هذه الفترة.
لقد رفع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله سقف المواجهة مع واشنطن، بعد اغتيال اللواء قاسم سليماني، ربما أعلى من السقف الذي رفعه الإيرانيون أنفسهم، إذ توعَّد بردود أقوى بعد الردّ على القاعدة العسكرية في العراق. لكنه عملياً نأى بلبنان عن أي مغامرة قد تقود إلى كارثة. ومِثله فعل الرئيس بشّار الأسد في سوريا، خصوصاً بعدما أبلغ اليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ألّا يُقحم نفسه في لعبة الردود.
طبعاً، بالتفاهم والتنسيق الكاملين مع طهران، وضع «الحزب» كل جهده لإمرار العاصفة التي تجتاح لبنان. وفي الدرجة الأولى، لتشكيل حكومة تقوم على تسوية موضوعية مع الأميركيين: هم يجدون فيها حداً أدنى من الشروط، وهو يحافظ على الحدّ الأقصى ممّا كان له من نفوذ في الحكومة السابقة.
على هذا الأساس، كان خيار دياب، الآتي من الجامعة الأميركية، مع وزرائه الذين هم في معظمهم من التكنوقراط، والذين يحملون مواصفات ومخزونات ثقافية وأكاديمية ومهنية وثيقة الارتباط بمؤسسات أميركية وأوروبية غربية.
ويعتقد كثيرون أنّ هذه التشكيلة، بكثير من وجوهها، كانت ستُعتَبر تكنوقراطية ومقبولة لولا أنّ القوى السياسية هي التي سمَّتها وتمون عليها وتريد التحكّم بسلوكها وقراراتها في مجلس الوزراء، كما تحكمت دائماً بوزراء الحكومات السابقة.
ولذلك، يجتهد دياب كثيراً لـ»تسويق» حكومته في الأوساط الدولية على أنها حكومة مستقلة سياسياً، فيما يدور نقاش عميق في العواصم الدولية والعربية النافذة حول ما إذا كانت هذه الحكومة مقبولة أم لا. وفي هذا الشأن، هناك مقاربتان في الأوساط الدولية ذات الشأن:
الأولى، تقول إنّ ما جرى ليس سوى عملية «تمويه» لا تستحق أن تقابَل بوقف الضغط ورفع «الفيتو» عن لبنان، بل تستوجب الذهاب إلى خطوات أعلى. والثانية، ترى أنّ مجرد إزاحة القوى الحزبية عن السلطة والاستعانة باختصاصيين هو فرصة يجدر تقديرها والبناء عليها لمنح لبنان مهلة اختبارية.
وليس سراً أنّ واشنطن وقوى دولية شجعت دائماً بروز قوى جديدة غير تقليدية. لكنّ الطاقم السياسي كان يعطّل دائماً عملية التغيير، خصوصاً من خلال قانون انتخابات «مضبوط» وتحالفات قسرية بين هذه القوى، ما يقطع الطريق على أي خرق.
ولكن، مع حكومة دياب، يرى البعض أنّ مكابرة قوى السلطة قد بدأت تتلاشى. ففي الشكل، هي حكومة «اللون الواحد»، حيث القوى السياسية زاحت وأرسلت مندوبيها «التكنوقراط». وأمّا في العمق، فيجب التوقف عند كونها الحكومة الأولى الخالية من الوجوه السياسية والحزبية العتيقة.
وإذا كانت قوى السلطة تعتبر أنها نجحت في الخديعة وأقنعت الداخل والخارج بأنها أنتجت حكومة التكنوقراط، فإنّ العارفين يقولون عكس ذلك تماماً. ففي الواقع، نجحت الضغوط في إزاحة رموز الطوائف والأحزاب التقليدية، في الشكل على الأقل.
والأهم، هو أنّ هؤلاء لن يجدوا ممثليهم في الحكومة متحمّسين لالتزام تعليماتهم كما جرت العادة في الحكومات السابقة، أو على الأقل، سيتفاوت الالتزام بين الواحد والآخر، ما يؤدي إلى وقوع القوى السياسية في الإرباك.
وثمّة من يتوقع أن يندم بعض القوى على اختياره لبعض الأسماء لتمثيله في الحكومة، كما ندمت قوى سلطوية على اختيارها بعض النواب الذين خرجوا من الكتل النيابية، نتيجة التباعد عنها سياسياً. وستكون تحديات الاختلاف بين بعض الوزراء والقوى التي جاءت بهم إلى الحكومة مطروحة بقوة في المرحلة المقبلة الحافلة بالتحوّلات.
وسيجد كل وزير نفسه واقعاً بين الضغط الهائل، من الداخل والخارج، لالتزام أداء سليم، فيما القوى السياسية التي يمثّلها تريده أن يكون في خدمة منافعها السياسية وغير السياسية، ولن تتردّد في تقديمه «كبش محرقة» إذا اضطرت إلى التَهرّب من الفشل. وهذا ما سيرفضه عدد من الوزراء الذين يعتبرون أنّ لهم رصيداً يرفضون التفريط به من أجل مقعد وزاري.
في الترجمة، إنّ عملية تغيير الطاقم السياسي المطلوبة دولياً قطعت نصف الطريق من خلال تركيبة الحكومة الحالية. وهذا انتصار جديد- وليس هزيمة- لانتفاضة 17 تشرين الأول. وهو يندرج في سلسلة انتصارات:
1- فَرضُ الانتفاضة نفسها كواقع لا يمكن إسقاطه.
2- إرغام الحكومة الحريرية على الاستقالة.
3- تشكيل حكومة جديدة ليس فيها أيّ رمز من الحقبة السابقة.
4- الاستعداد لإدارة البلد سياسياً ومالياً واقتصادياً وفق رؤية تراعي مطالب الانتفاضة.
5- ستكون الخطوة التالية إرغام طبقة النافذين على القبول بانتخابات حرّة، شرط ألّا يستطيعوا التحكّم فيها أو تزويرها بنحو مباشر أو غير مباشر، ما يسمح بتغيير حقيقي في تركيبة السلطة.
لذلك، وفي نظرة أكثر عمقاً، الانتفاضة حقّقت في 100 يوم ما لم يكن ممكناً تحقيقه في عشرات السنين، وسيكون هناك المزيد، سواء بحكومة دياب أو من دونها. وعلى الأرجح، سيكون ذلك مؤاتياً لتترقّب القوى الدولية والعربية نهج الحكومة بدءاً بالبيان الوزاري، ثم عملها، قبل أن تحكم سلباً أو إيجاباً.
وفي الانتظار، يريح القوى الدولية ظهور مواقف مبكرة عن الحكومة الجديدة تؤكد أن لا مسّ بأركان الاستقرار الحقيقي، ولاسيما منها قيادة الجيش وقوى الأمن الداخلي، أو بالمرجعيات المعنية بقطاعات المال والمصارف والقضاء ومؤسسات الرقابة.
العلامات الأولى، الدولية والفرنسية والبريطانية، جاءت متريّثة وتراهن على الإصلاح أولاً، فيما يسود صمت عربي. والأرجح أنّ الجميع ينتظر الإشارة الخضراء من واشنطن، انطلاقاً من إشارات وزير الخارجية مايك بومبيو قبل يومين، التي أظهرت اتجاهاً للمضي في استخدام سياسة العصا والجزرة.
وبالتأكيد، الرسائل الخفية التي يتم تداولها بين القوى اللبنانية وواشنطن تدور حول نقاط ساخنة، وستكون أكثر سخونة في مستقبل لبنان والشرق الأوسط، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً… هذا عدا عن الرسائل الممكن أن يتم تداولها بين واشنطن وطهران. وهذه كلها ستحدّد مستقبل الأزمة في لبنان وموقف الإدارة منها. وقدرة لبنان على الخروج من النفق مرهونة بكل هذه العوامل. أليس اللبنانيون هم الذين نَصّبوا أنفسهم ساحة نزاع وصندوق بريد بين المتنازعين في الشرق الأوسط؟