وهذا ما تشي به ايضاً «المراهقات الثورية»، التي حوّلت الساحات تدريجاً من مطلب جامع للبنانيين، إلى ما يشبه منحدراً، هوى فيه بعض الحراك الشعبي إلى قعر اللعبة السياسية، بشكلها الفجّ، الذي يخاطر بمصير البلاد والعباد، تلبية لحصة وزارية هنا، أو تصفية حسابات هناك.
ساذج من يعتقد أنّ ما حدث في وسط بيروت، يومي السبت والأحد الماضيين، والذي «يبشّر» البعض بتكراره، حتى بمزيد من العنف، هو ردّة فعل طبيعية من شعب أوصلته الطبقة الحاكمة، بأجنحتها المختلفة ـ أو ربما أوصل نفسه بنفسه من خلال التجديد لها في دورات الانتخابات المتعاقبة ـ إلى هذا الدِرك من الفقر والعوز.
ما جرى، وكما يقرّ بعض مكونات الحراك الشعبي الصادق في التعبير عن وجعه، لم يكن بريئاً على الإطلاق، وثمة مؤشرات كثيرة تؤكّد ذلك، ولا يجرؤ أحد على إنكارها، حتى على المنابر الإعلامية المنقسمة بين هذا الفريق أو ذاك.
كل ذلك، يطرح السؤال الأهم: ماذا عن البلد؟ وأي مصير يُصاغ له؟ وهل ثمة من يريد تطبيق نظرية «الفوضى الخلاّقة» التي تقود إلى إعادة تأسيس النظام السياسي الذي ولّده الطائف، نحو نظام جديد يُراد فرضه بالدم؟
يسارع مرجع مسؤول إلى القول: «نعم».
ويضيف: «لا يصلح في السياسة أن يُقارَب أي وضع بلحظته. فما حدث ليل السابع عشر من تشرين الأول، لم يكن إلّا لحظة مفصلية، في التناقضات الداخلية اللبنانية، والتناقضات الخارجية المتمحورة حولها، والمتماهية معها إلى حدٍ يجعل من الغباء السياسي القول، إنّ ما يحدث «صُنع في لبنان».
ويجزم المرجع عينه، بأنّ «الفوضى الخلاّقة» لم تبدأ في 17 تشرين الأول. بل ثمة مسار طويل أسّس لها منذ أشهر، يوم صُمّت آذان الطبقة الحاكمة، عن الأصوات الصارخة في البرّية اللبنانية، التي حذّرت من السيناريو الأسود الذي يعيشه لبنان اليوم.
ويقول، انّ ذلك قد بدا واضحاً بعدما تخطّى لبنان «المحظورات»، وذهب في مساره النفطي، من حيث لا يدري، إلى مسار يناقض تماماً الترتيبات الاميركية. وتبدّى ذلك بشكل خاص في موضعين:
الموضع الأول، تمثّل في السبب المباشر الذي فتح «صندوق باندورا» الاميركي، هو توجيه لبنان نفطه شرقاً، ولو جزئياً، نحو روسيا، بعد فوز «نوفاتيك» بحصّة ضمن كونسورتيوم يضمّها وشركتي «توتال» و«أني» في دورة التراخيص الأولى، وبعدها تلزيم «روس - نفط» منشآت التخزين في طرابلس.
هنا يلاحظ المرجع، انّه منذ ذلك الحين، بدأ التصعيد، بشكل ملفت للانتباه من ناحية التوقيت. فذهب الأميركيون بعيداً في وضع «العقدة في المنشار» بما يتصل بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وتحوّلت صواريخ «حزب الله» الدقيقة إلى ذريعة إضافية لفرض مزيد من العقوبات على المقاومة، وبطبيعة الحال على الاقتصاد اللبناني، وهي بلغت نقطة التصعيد القصوى بإدراج «مصرف جمال» (الذي ينظر إليه كثيرون باعتباره «مصرف الشيعة») على قائمة العقوبات، في خطوة شكّلت المرحلة الأولى من عملية ضرب القطاع المصرفي، العمود الفقري للاقتصاد اللبناني الخدماتي.
أمّا الموضع الثاني، فحدث قبل ذلك بكثير، حين أفضت المعادلة السياسية - الطائفية إلى جعل قطاع النفط والغاز على صورة النظام المحاصصاتي. وهنا بيت القصيد. فالثروة النفطية، بحسب الرؤية الأميركية، كانت ستتوزع، بشكل او بآخر، طائفياً، أيّ إنّ حصّة منها ستؤول إلى «بيئة حاضنة» سياسياً واجتماعياً واقتصادياً لـ«حزب الله»، ما يعني بعبارة أخرى، أنّ كل ما راكمته الإدارات الاميركية المتعاقبة من إجراءات لـ«تجفيف المنابع المالية للحزب»، قد يذهب أدراج الرياح.
وتبعاً لذلك، يعبّر المرجع المسؤول عن خشية وقلق من أن يكون بعض الخارج مقتنعاً بأنّ النظام اللبناني بصيغته الراهنة لم يعد ممكناً أن يستمر، وأنّ ثمة حاجة لتأسيس نظام جديد. ولكن أي نظام؟ وكيف سيتمّ الوصول اليه؟ وعلى أي ركام وانقاض وأطلال سيقوم؟ وما هي كلفته؟ ومن سيدفعها؟ وقبل ذلك، هل ثمة في الداخل من هو مستعد لتقبّل هذا الامر الذي يحوّل لبنان من جمهورية إلى جمهوريات، حتى ولو كان كافراً بنظام الطائف ومقتنعاً بأنّ المنظومة التي أنتجها اتفاق الطائف قد اهترأت؟
الّا انّ المرجع يستدرك قائلاً، بأنّ طروحات من هذا القبيل قد تكون الملاذ الأخير، لمن يسعى، في الداخل أو الخارج، إلى إعادة تأسيس المنظومة الحاكمة، طالما أنّ ثمة أفكاراً يمكن فرضها لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى - والمقصود الأهداف الخارجية - من قبيل إعادة تأسيس المنظومة الاقتصادية، حصراً، وعمادها الأساسي القطاع المصرفي، المشرّع اليوم على احتمالات شتّى... ولكنّ ذلك، وفق منطق العلاقة الجدلية بين الاقتصاد والسياسة، سيقود حكماً إلى إعادة تشكيل المنظومة السياسية بشكل أو بآخر. ولعلّ النظر إلى الوضع الراهن في لبنان من هذه الزاوية بالذات، يفسّر الكثير في حالة العبث واللامنطق التي باتت السمة الأساسية في لعبة السياسة ولعبة الشارع على حد سواء.
وعلى هذا الأساس، كما يقول المرجع، «أحاول أن أبحث عن السبب الذي دفع ويدفع البعض في الشارع إلى اللعب بالنار. فهذه اللعبة قد تطال عنصر الاستقرار الامني، الذي ما زال متماسكاً حتى الآن بأعجوبة، وعندما يمس هذا الاستقرار فذلك سيقود إلى فوضى قد يسمّونها «خلاّقة»، وقد يعتبرها البعض المفتاح لأي تغيير جذري في بنية النظام. وثمة تجارب سابقة اثبتت ذلك، سواء تلك التجارب الأقرب إلينا كمصر وسوريا والعراق، او البعيدة عنا مثل أوكرانيا وجورجيا وفنزويلا وغيرها».
هنا يبقى السؤال: هل ثمة مخرج يقي لبنان هذه السيناريوهات؟
يؤكّد المرجع نفسه، انّ هامش المناورة يضيق، وحتى مع الحكومة الجديدة. فسقف التوقعات بشأن فِرَص نجاحها يبقى موضع شك. وهذا ما أوحى به مسبقاً، الصراع على الحصص ضمن «اللون الواحد»، والذي يُخشى مع استمرار عقلية الصراع هذه، أن يجعل من الحكومة الجديدة نسخة عن سابقتها في ما يتصل بآليات اتخاذ القرار، علاوة على التحدّيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة التي سيكون كل منها لغماً متفجّراً في طريقها. وهذا أيضاً ما يوحي به انفلات الشارع نحو الخيارات العنفية الأكثر تطرفاً، كتلك التي هزّت البلاد، في نهاية الاسبوع الماضي.
مع ذلك، يختم المرجع قائلاً: «يبقى أضعف الإيمان أن تُعطى هذه الحكومة فرصة، طالما أنّها باتت القشة الأخيرة التي يمكن التمسّك بها، أملاً بالوصول إلى شاطئ أمان ابتعد كثيراً عن مرمى النظر».