بينما خضعت حكومة الرئيس المكلف حسان دياب لعملية قيصرية متواصلة، بتحوّل أحزاب السلطة إلى قابلاتٍ غير قانونياتٍ للولادة، شهد الشارع اللبناني تطوراتٍ هامة كان عنوانها الأوسع عودة الزخم للثورة وإرتفاع منسوب الضغط الشعبي في مواجهة تحجّر السلطة وتكالب أحزابها على الحصص الوزارية، بينما يغرق البعض في تفاصيل صور الرفاهية والإنبهار المصطنع بالتواصل مع جوقة المعجبين داخل جدران القصر النازف كرامة والتواقة لرونقٍ مهدور.
أجمعت السلطة على قمع الثورة في الشارع بوسائلها المختلفة، فبادر الرئيس نبيه بري إلى «رجم» الحراك بذريعة التخريب الحاصل في شوارع بيروت، رغم أن من قاموا بالتخريب رفعوا إسمه واسم أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله، ومع ذلك إمتلك القدرة على تجاهل هذه الحقيقة لرجم الثوار.
أما الوزير جبران باسيل، فيدأب على ممارسة الضغوط على الجيش ليقع في المحظور، بينما عيناه على الثأر الشخصي ممن شتمه وأمه في الشوارع، فيكلّف من يحصيهم ويكدّس أسماءهم في قيادة الجيش مطالباً بالقبض عليهم.. بينما يواظب على الجلوس التأملي في شرفة منزله في اللقلوق متابعاً «نجاحات» العهد المتنامية ومهيّئاً لمرحلة جلوسه في قصر بعبدا بعد أن يستلم الأمانة من عمه الجنرال.
أحزاب السلطة تقمع وتفجّر مذهبياً
وبلغ تواطؤ أحزاب السلطة ذروته مع إنفلات قوى الجيش والأمن الداخلي على المتظاهرين، فإرتفع منسوب القمع، وتفاقمت ظاهرةُ الإعتداء على المتظاهرين والصحافيين بشكلٍ مروّع، بينما عاين اللبنانيون المشهد المُذِلّ والمؤلم لمرور عشرات رجال قوى الأمن بشكلٍ لصيق قرب المخربين في شارع الحمرا، وكأنهم لا يشاهدون شيئاً..!!
كذلك، عمل «حزب الله» على تفجير إشتباكٍ مذهبي مع البلدات السنية في البقاع، محاولاً فرض حصارٍ فعليّ عليها، تحت ذريعة رفض قطع الطرقات، فقام أتباعه بالإعتداء على خيم المعتصمين، وأطلق العنان للشتائم المذهبية التي طالت مقدسات ومحرمات بشكلٍ شديد الإستفزاز، بينما كان الردّ في المقابل توجيه الشتائم لأمينه العام، وسط تعبئة مذهبية شديدة الخطورة.. ورغم التهدئة الحاصلة، إلا أن الخوف من انفجار هذا الاشتباك، بات كابوساً يرافق يوميات أهل البقاع.
إيقاع الثورة
تمكنت الثورة من فرض إيقاعها على السلطة من جديد، فإضطرت إلى تسريع خطواتها لتشكيل حكومةٍ يُفترض أن أحزابها أجمعت على تسمية المكلّف بتأليفها، لكنها بقيت على مدى أسابيع تتلاعب بمصير الناس وتتناتش المناصب والمواقع، بوقاحة قلّ نظيرُها.
ربما يعود الصراع بين أحزاب السلطة إلى كون «حزب الله» لا يزال يعاني صدمةَ تصفية قاسم سليماني وتداعيتها الإستراتجية وما أفرزته من مشاهد كانت مقلقة للحزب، من زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى دمشق وإتيانه ببشار الأسٍد إلى القاعدة الروسية، والتجاهل الكلّي لإغتيال سليماني، مع تواصل الغارات على المواقع الإيرانية في سوريا.. إضافة إلى تفاقم أوضاع إيران بعد إسقاطها الطائرة الأوكرانية وبدء الإتفضاض الأوروبي من حولها.
ورطة «حزب الله»
تكمن ورطة «حزب الله» في الداخل بأن مطحنة السلطة كادت تطيح حلفاءه وتحوّلهم إلى مصارعين في حلبةٍ يستمرّ فيها الصراع حتى التصفية. وما لم يكن في الحسبان أن يتمسك حسان دياب بالآليات الدستورية لتشكيل الحكومة، ويبدأ بالتصرف إنطلاقاً من صلاحياته، وهو أمرٌ إعتاد تحالف «حزب الله» – أمل والتيار العوني، على تجاوزه بشكلٍ متواصل طيلة وجود الرئيس سعد الحريري في السلطة، سواء كان رئيساً مكلفاً أو رئيساً مقيماً في السراي الحكومي.
فرصة دياب
يمتلك حسان دياب فرصةً حقيقية للعبور. فالجمهور السني لا يريد عودة سعد الحريري على طريقة حلفائه في السلطة: أي التعويم الساذج القائم على بعض التحركات الشارعية المعروفةِ الحجم والكلفة، وعلى بعض الخطاب التعبوي المذهبي والسياسي الذي لم يعد يقنع أحداً. فلا خصومته مع «حزب الله» مقبوضة، ولا مناوشاته مع جبران باسيل مهضومة، لأنه دأب على الإبتعاد عن الإعتراف بخطاياه السياسية والإقرار بها كمنطلق لإصلاح المسار.
يدرك السنة في لبنان أن الحريري لم يعد معنياً لا بمحاورتهم ولا بالوقوف عند آرائهم، ولهذا فإنهم يرفضون أن يتولى التقرير في مصائرهم، وقد أوردها موارد التهلكة في مسارٍ لا ينتهي من التنازلات. لهذا، كان لبيان الرئيس المكلف حول الصلاحيات الدستورية صدىً واسعا، حدّ منه السمعة المتصاعدة بأن مطبخ تأليف الحكومة لحّوديّ يشرف عليه النائب جميل السيد، لكن الجميع بإنتظار التشكيلة، وما إذا كانت ستستجيب لمطالب الثورة، كما دأب دياب على التكرار.
وبينما عمل أقطاب السلطة على خنق دياب، خرج الرئيس الحريري بموقفٍ يظنّ أنه يُحرج حلفاءه السابقين، عندما دعا إلى تشكيل الحكومة وأنه سيعطيها فرصة للعمل.
المشنوق: الأولوية لحفظ الصلاحيات
موقفٌ سنـّي آخر عبـّر عنه النائب نهاد المشنوق، الذي تولّى تفنيد ممارسات ساكن قصر بعبدا، مؤكداً أنّ «المساواة في المسؤولية السياسية والدستورية بين رئيس الجمهورية وبين رئيس الحكومة المكلّف هو في حدّ ذاته تعبير عن التخبّط السياسي. فالرئيس المكلّف ملتزمٌ حتى الآن بتطبيق النصوص الدستورية. أما رئاسة الجمهورية فقد احتلّت عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية وملأتها اجتهاداتٍ وأعرافاً جديدة في تفسير الدستور، ومنها استعمال تعبير «تثبيت التكليف»، وهو تعبير رياضيّ يُستعمل في المصارعة الحرّة لإعلان خسارة أحد اللاعبَين. وكأنّ الرئاستين الأولى والثالثة تتصارعان على حلبة الوطن، مع العلم أن تثبيت تكليف رئيس الحكومة يكون من خلال منح مجلس النواب الثقة لحكومته»، وانتقد «الإنكار التام للانهيار الذي تعيشه البلاد منذ ثلاثة أشهر (الذي) لا ينتج إلا مزيداً من الاشتباك والتوتّر»، معتبراً أنّ «الرئيس المكلّف قد ساهم في استعادة بعض الصلاحيات المهدورة، وهو يدفع اليوم ثمن تمسّكه بهذه الصلاحيات، بعدما اعتاد الفريق الحاكم على طمس صلاحيات الرئاسة الثالثة تحت وابل من الاجتهادات التي تكاد تخنق الطائف».
يمكن إعتبار موقف المشنوق إسناداً مباشراً لموقع رئاسة الحكومة في لحظة إختلاط الأوراق، لكن الواضح أنه لا يريد تكرار تجربته في الهجوم الإعتراضي العنيف الذي نفـّذه ضد الرئيس نجيب ميقاتي عند تشكيله حكومته عام 2011 إثر إنقلاب «القمصان السود»، لإعتباراتٍ كثيرة، أهمها أن ما تعرّض له موقع رئاسة الحكومة من إنتهاكات لم يعد يسمح بتعريضه للمزيد من التصدع، في وقتٍ يحتاج فيه الجميع إلى هدنةٍ لإعادة الحدّ الأدنى من الإنتظام العام للمؤسسات الدستورية.
ستبقى الثورة متمسكة بثوابتها، وسيحاول دياب إستقطاب المزاج السني الذي لن يمانع التعاون مع رئيس حكومة يعطي الحدّ الأدنى من التمسّك بالصلاحيات والحقوق، ويرجو أن تكون الولادة حكومة كفاءات مستقلين، لا أن تتمخض فئران تجارب تأكلهم قطط السلطة، فتسقط الفرصة ويتسارع الإنهيار.