انتهت المهلة التي أعطتها الانتفاضة بإحباطٍ جديد. فالحكومة الموعودة هي «حكومة لون واحد»، 8 آذار صافية، تحت غطاء «التكنوقراط». فقد «زاح» النافرون عن الواجهة، ووضعوا «تكنوقراطَهم» من مقرَّبين، بل مستشارين في أمكنتهم. وبديهي أنّ هؤلاء «التكنوقراط» لن يقطعوا خيطاً في الحكومة إلا إذا سَمَح لهم الأصيلون بذلك. مثلاً:
غازي وزنة هو مستشار للرئيس نبيه بري، ريمون غجر هو مستشار للوزير جبران باسيل، ومنال مسلِّم هي مستشارة لوزير البيئة الحالي فادي جريصاتي والسابق طارق الخطيب... وهكذا دواليك. وبمعزل عمّا يمتلك هؤلاء من طاقات، فإنّهم في النهاية أجزاء من الماكينات السياسية والحزبية.
ولذلك، هناك في الانتفاضة مَن يسأل: كيف سيتمكّن الرئيس حسّان دياب من إقناع الرأي العام الداخلي والدولي بأنّ حكومته هي حكومة مستقلّين فعلاً، لا نُسَخاً عن قوى السلطة؟ وتالياً، كيف سيطالب بالدعم المادي والمعنوي لـ«التقليع» ببلدٍ بات في عمق الانهيار؟
ويكشف البعض، أنّ الرئيس المكلَّف أضاع فرصة ثمينة لإثبات أنّه فعلاً يريد تشكيل حكومة مستقلّين. وفي هذا الشأن، يتمّ تداول معلومات مفادها، أنّ بعض المعنيين بالإنتفاضة كانوا بادروا قبل أيام إلى تقديم اقتراح إلى دياب، يتيح له إمّا تأليف الحكومة التي وعد بها، وإما الخروج بطريقة مشَرِّفة من مأزق المراوحة.
ويقضي هذا الاقتراح بأن يقوم الرئيس المكلَّف، بعد استنفاد عمليات التشاور مع الجميع والبحث في الأسماء والحقائب وبرنامج الإنقاذ المطلوب، بإعداد تشكيلة حكومية لا تضمّ سوى وزراء تكنوقراط مستقلّين فعلاً عن القوى السياسية جميعاً، ولا يرقى إليهم الشك في الكفاية والخبرة ونظافة الكفّ، بحيث لا يمكن اعتبار هذه التشكيلة استفزازاً لأي طرف.
والعثور على هؤلاء المستقلّين ليس أمراً تعجيزياً كما تحاول أن توحي قوى السلطة، بل هم موجودون بالتأكيد في لبنان والخارج، ولكل منهم تجاربه التي ترشد إليه. وهذه التشكيلة من الأسماء، يحملها الرئيس المكلَّف إلى بعبدا ويسلّمها إلى رئيس الجمهورية ويبلغ إليه أنّها خياره، وأنّ لا مانع من تعديل بعض الأسماء والحقائب، شرط أن يتمّ ذلك من ضمن المعايير إياها، وليس على أساس المحاصصة السياسية والحزبية.
في هذه الحال يكون هناك خياران:
1- أن يقوم رئيس الجمهورية بإصدار هذه الحكومة بمرسوم، وينجح دياب في تأليف الحكومة التي يمكن أن تحظى بالدعم الداخلي والدولي، أي الحكومة التي تُنقذ البلد.
2- أن يرفضها رئيس الجمهورية ويصرّ على طرحه الحكومة السياسية أو التكنو- سياسية. وعندئذٍ، تقول الأوساط إيّاها، يخرج الرئيس المكلّف ويكاشف الرأي العام بالوقائع، ويعلن أسماء تشكيلته على الملأ. وبذلك، يكون دياب قد أظهر أنّه يريد حكومة مستقلّين وتكنوقراط فعلاً لا مناورةً.
وبهذه الطريقة، يُخرِج دياب نفسه من دائرة الإتهام بأنّه جزء من ألاعيب قوى السلطة أو أداة لها. فهو قادر على أن يربح سياسياً، سواء نجح في تمرير حكومته ودخول نادي رؤساء الحكومات من باب الحكومة الإنقاذية، أو خرج من لعبة التكليف إلى قواعده سالماً ومحافظاً على ماء الوجه.
يضيف المعنيون بالانتفاضة: «لكن دياب لم يتجاوب، ورفض مواجهة القوى التي كانت وراء تكليفه. ويبدو مربكاً، لكنه يفضِّل الخيارات المريحة له، أي المماطلة والرهان على الوقت، لعلّ الظروف تسمح بتمرير حكومة تُرضي قوى السلطة وتقبل بها القوى الدولية والعربية كأمرٍ واقع، وتعجز الانتفاضة عن إسقاطها».
وفي رأي بعض المعنيين في الحراك، أنّ قوى السلطة تمتلك «المَوْنة» على دياب وأدوات الترغيب والضغط لإبقائه «تحت السقف»، فلا يتفلَّت من عقالها، وهي تعرفه جيداً واختبرت عمله في الحكومة سابقاً.
طبعاً، المفضّل بالنسبة إلى قوى السلطة، ولا سيما منها «حزب الله»، هو أنّ تشكيل حكومة سياسية بكل ما في الكلمة من معنى، بحيث تكون موجودة مباشرة فيها، وتطمئن إلى أنّها لن تتعرَّض للخرق السياسي من أي جهة خارجية. لكن هذا الفريق يُدرك أنّ حكومة من هذا النوع ستُلحق لبنان بالنموذج الفنزويلي، ما يعني الفشل الكامل والمواجهة مع المجتمعين العربي والدولي.
لذلك، كانت الخطة الجديدة: استعجال تأليف حكومةٍ بالحدّ الأدنى من الطموحات، تحاول أن تنال رضى الخارج إلى التزام الإصلاح ونهج الشفافية. وهذه الحكومة تقفز سريعاً إلى انتخابات مبكّرة، وفق قانون يدرسه أركان السلطة ويسيطرون على مسار الانتخابات.
ويُراد من هذه الانتخابات أن تكرّس نتائج انتخابات 2018، أي أنّها تعيد الغالبية الحالية وتقطع الطريق على طموحات الانتفاضة والتغيير. ولهذا السبب، تبدو ملامح الارتياح السياسي، منذ أيام، على أركان السلطة جميعاً، المشاركين في حكومة دياب وغير المشاركين، برعاية الرئيس نبيه بري.
السؤال هو: هل الانتفاضة ستُعطي «حكومة المناورة» الجديدة فرصة أخرى؟ وكيف سيكون ردّ الفعل عليها عربياً ودولياً: مدخل إلى الحلّ أم مبرِّر للانفجار الكبير؟
هل الانتفاضة ستُعطي «حكومة المناورة» الجديدة فرصة أخرى؟