لم يكن يوماً التحدي أمام الأكثرية في قدرتها على تشكيل الحكومة من عدمه، فهذا الجانب كان دوماً في خانة البديهيات و«تحصيل حاصل»، لأنها عندما اصطدمت بعجزها عن التكليف وأمام تمسّك «القوات اللبنانية» وتيار «المستقبل» والناس بحكومة اختصاصيين مستقلين، لم يعد أمامها سوى تشكيل حكومة بسرعة وبمَن حضر في محاولة لفرملة الانهيار الذي يُشكِّل العدو الأول لاستمرارها في السلطة.
فالتأليف كان يجب أن يحصل في الأسبوع نفسه للتكليف، وبالتالي ولادة الحكومة لا تعني شيئاً، إنما المستغرب كان أن يطول التأليف كل هذا الوقت بين مكوّنات اللون الواحد وعلى خلفيات حصص وأحجام وأوزان، في وقت يحترق البلد ويرتفع منسوب غضب الناس.
وجاء اغتيال قاسم سليماني ليغطي عجز الأكثرية في التأليف بالقول انّ المرحلة باتت تستدعي حكومة سياسية لا تكنوقراطية، فيما في الواقع تمّ استخدام هذه الورقة للضغط على الرئيس المكلف وتخييره بين إمّا تبنّي الصيغة التي أعدّت له، وإمّا الاعتذار بحجة انّ ظروف التكليف تبدلت مع تطورات المنطقة، وعندما رفض دياب الانصياع لشروط باسيل اضطر الأخير الى التراجع خطوة إلى الوراء.
وقد ظنّ باسيل انّ دياب، المقطوع من شجرة بسبب رفض مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان استقباله، ووقوف بيئته ضده وعدم استناده الى شارع أو إلى فريق أو ركيزة سياسية سيجعله طَيّعاً بين يديه، ولكن دياب استند إلى صلاحياته أولاً وإلى معرفته ثانياً انّ العهد لا يملك البدائل، فحاول أن يحسِّن شروطه ووزنه داخل الحكومة التي أرادها ان تكون تكنوقراطية ولم يمانع باسيل و»حزب الله» في ذلك كلّ لأسبابه.
فالحزب أولويته تلافي الانهيار الذي يرتد عليه وعلى دوره، وتقبَّل فكرة التكنوقراط طالما انه يتقاسم والرئيس نبيه بري تسمية الوزراء الشيعة، فيما باسيل حقق هدفه الأول بإبعاد الرئيس سعد الحريري، ولا يريد ان يتحمّل فشل الحكومة العتيدة في ظل إدراكه صعوبة الإنقاذ، فحاول ان يرفع عن نفسه تهمة تسمية معظم الوزراء المسيحيين في لعبة مكشوفة، فإذا فشلت الحكومة يتبرّأ منها، وإذا نجحت يتبنّاها.
ونجاح الرئيس المكلف بثلاثية عدد وزراء الحكومة، وكونهم من الاختصاصيين، وتجاوز «الفيتو» على الوزير دميانوس قطار، لا يعني انّ حكومته ستلقى ثقة الناس وثقة الخارج، لأنّ العطب البنيوي في حكومته انها حكومة محاصصة بين فريق اللون الواحد، وهذا الأمر معروف ولا خلاف حوله، والتأخير في التشكيل كان على اسم أو أكثر ومع باسيل الذي يريد أن يحتفظ بكل شيء لنفسه، فيما المطلوب كان أن تكون الحكومة هذه المرة من حصة البلد والناس وليس محاصصة على حساب البلد والناس.
وانطلاقاً من أنّ التأليف كان أساساً من البديهيات، فإنّ السؤال الأساس يبقى حول قدرة حكومة اللون الواحد على مواجهة الأزمة المالية غير المسبوقة، والتي كانت تستدعي ائتلافاً وطنياً وإعلان حالة طوارئ وتعليق كل شيء في البلد للاتفاق على سبل الخروج من هذه الأزمة، ولكن هل من يتصور انّ فريق اللون الواحد الذي كاد يطيح بالتكليف والتأليف بسبب خلافات حصصية سيتمكن من وضع خطة إصلاحية فعلية للحكومة عموماً ووزارة الطاقة خصوصاً؟
فالمشكلة كانت وما زالت في الإدارة السياسية لفريق أوصَل البلد إلى الهلاك، وهذا الفريق الذي لا يعترف أساساً بحجم الأزمة ليس في وارد أيضاً التخلّي عن مكاسبه ومصالحه في الوزارات والإدارات وكل جسم الدولة المُهترئ، بل سيواصل التعامل مع الملفات بالطريقة السابقة نفسها من الكهرباء والاتصالات إلى المعابر غير الشرعية ورفض الخصخصة، فضلاً عن صعوبة استقطاب ودائع خارجية فورية بفِعل طبيعة الحكومة والرهان على وديعة واحدة في ظل حاجة لبنان الى أكثر من وديعة غير كاف على الإطلاق، وبالتالي كيف يمكن للحكومة العتيدة ان تواجه أصعب أزمة عرفها لبنان منذ تأسيسه؟
فالتحدي الأساس إذاً ليس في التأليف، بل في القدرة على كسب ثقة الداخل والخارج واعتماد سياسات إصلاحية فعلية لا شكلية للترويج فقط، والرئيس المكلّف الذي اصطدم بذهنية المكاسب والحصص والنفوذ قبل التأليف، فنيّاته الإصلاحية لن تكون كافية لنقل لبنان إلى شاطئ الأمان كونه سيصطدم بالذهنية نفسها، ولن يتمكن من تحقيق أي خطوة إصلاحية نوعية لا في الكهرباء التي ما زالت ممسوكة من قبل باسيل، ولا في السياسات العامة بفِعل إمساك الأكثرية بزمام الأمور.
فطرح حكومة اختصاصيين مستقلّين بعيدة عن تحكُّم القوى السياسية لم يكن من قبيل الترف أو المزايدة السياسية، إنما بفِعل الاقتناع التام والراسخ انّ إخراج لبنان من أزمته غير ممكن مع ذهنية سياسية تتعامل مع الحق العام وكأنه حق خاص ومكتسب، وتراهن على المساعدات الخارجية انطلاقاً من مقولة عدم مصلحة الخارج بسقوط لبنان، وهي نظرية لم تعد صحيحة، وهذه الذهنية غير مستعدة التخلّي عن مكاسبها ومنافعها التي أوصَلت الدولة الى الإفلاس، كما انها غير قادرة وغير مؤهّلة على مواجهة أزمة من هذا النوع.
ومن هنا، فإنّ تشكيل الحكومة هو بداية لأزمة جديدة وليس أفقاً للحل المنشود، والأشهر المقبلة ستكون كفيلة بتبيان ذلك، فإمّا تتعطل الحكومة من داخلها بسبب النزاع بين رئيسها والأكثرية داخل الحكومة فيعتكف في السراي الحكومي، وإمّا تسقط في الشارع بسبب عدم قدرتها على حلّ الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة، وإمّا الاحتمالين معاً. وبالتالي، إنّ عمر الحكومة الثالثة في العهد سيكون من أقصر أعمار الحكومات على مر العهود.