بعد 90 يوماً على انفجار الغضب الشعبي، وعلى مسافة أسابيع من المواعيد التي حدّدها خبراء الاقتصاد والمال حول الدخول الحتمي في مرحلة الانهيار الاقتصادي، لا يزال النقاش الحكومي يدور ضمن حلقة مفرغة من التسميات من «التكنوقراطية» و«التكنوسياسية» و«السياسية»، إلى آخر تلك التسميات التي تعكس حالة العبث، التي جعلت أحدهم يجتهد في التوصيفات المقترحة مفرّقاً بين «حكومة اختصاصيين» و»حكومة مختصين»! واذا كان العبث بات سمة ثابتة عند السياسيين في لبنان منذ زمن، فالخطير في الأمر أنّه بات وباءً لم يعد أحد محصناً منه، إلاّ قلّة لا حول لها ولا قوة.
هو العبث المنسحب على «الحراك الشعبي» الذي بالغ، منذ البدء، سواء عن حسن نيّة أو عن سوء نيّة، في الذهاب بعيداً نحو شعارات طوباوية، تتماهى مع شعار «كن واقعياً وأطلب المستحيل»، فراح يفقد البوصلة تدريجياً، ليغرق هو نفسه في مستنقع اللعبة السياسية، من حيث يدري أو لا يدري، فصارت المطالبات الأولية، التي أنزلت الناس إلى الشوارع، مطالبةً بالاصلاح الاقتصادي، ومعلنةً الحرب على الفساد.
هذا تماماً ما جعل ديناميات الحراك الشعبي نفسه، تفقد زخمها، برغم آحاد «الغضب» و«الاصرار» و«التحدّي». إلى آخر هذه التسميات، المستوحاة من تسميات «الربيع العربي»، ولا سيما في نموذجه الأكثر كارثية (سوريا)، لينتهي الأمر من «مليونيات» في الساحات والشوارع، إلى مجرّد مراهقات ثوريّة، تطارد هذا المسؤول أو ذاك في مطعم أو مقهى.
امتداداً لحالة العبث الوبائي، يأتي التعامل الرسمي ـ وإلى حد ما الشعبي- مع النزف المستمر في الليرة اللبنانية، والذي تبدّى في بلوغ سعر الصرف عتبة الـ2500 ليرة للدولار الواحد، ليعكس ملامح الكارثة الاقتصادية المحدقة، ويُسقط آخر أوراق التوت عن عورة الاقتصاد اللبناني.
يوم كُلّف حسان دياب بتشكيل الحكومة الجديدة، كان البعض يأمل في أن يفتح سوق القطع على «صدمة إيجابية» تُنزل الدولار عن عرش الألفي ليرة لبنانية. لكنّ التوقعات خابت، ربما لأنّ أصحابها تجاهلوا عنصرين أساسيين: الأول، هو أنّ الصدع في الثقة بالطبقة الحاكمة اتسع إلى درجة لم تعد ينفع معها الترقيع. والثاني، هو أنّ أي حكومة، حتى ولو شُكّلت، لن تكون قادرة على الحكم، طالما انّ ثمة من اختار وضع العصي في دواليبها، مختاراً لغة الشارع والتعطيل، بديلاً للمؤسسات الدستورية ـ على عللها ـ والمساهمة في الانقاذ.
الأيام الثلاثون التي تلت التكليف جاءت لتكرّس ما سبق. بُشّر اللبنانيون بـ«عيدية» حكومية قبل رأس السنة، فجاءت تلك العيدية مزيداً من التعطيل سياسياً، ومزيداً من الـ«كابيتال كونترول» مالياً، والذي لم يعد يطاول سوى صغار المودعين، اللاهثين وراء مئتي دولار أسبوعياً من حساباتهم، علّهم يظفرون بها، ليذهبوا بها إلى الصرّاف، فيحاولون بها تقليل الأثر الكارثي للارتفاع الجنوني في أسعار السلع.
هو البؤس في حد ذاته، الذي حوّل الرخاء النسبي الذي تمتعت به الطبقة الوسطى، وهي تسير تدريجياً على طريق الانقراض خلال السنوات الماضية، أو قُل سخرية القدر التي جعلت جدل الفلسفة الاقتصادية يتحوّل من «خيار هانوي أو هونغ كونغ» في التسعينيات، إلى «خيار الصومال» في المرحلة الحالية.
الغريب في الأمر، أنّ ثمة من تحوّلت الرفاهية لديه إدماناً، والمقصود بذلك الرفاهية السياسية، التي جعلت ملف التأليف الحكومي في غيبوبة حالياً، بعدما عادت الشؤون الحكومية ليس إلى النقطة الصفر فحسب، بل إلى ما دونها بكثير، لتنحرف بكافة وجوهها من شعار «الانقاذ» إلى اللعبة التقليدية التي تقود البلد إلى الخراب، الذي باتت المسافة إليه تقاس بالأيام.
في لعبة الموت، التي تتجاوز في شكلها خطورة «لعبة الروليت الروسية»، يتقاذف اقطاب السياسة اللبنانية كرة النار فوق براميل ساخنة في شارع على قاب قوسين أو أدنى من الإنفجار الشامل، لتحرق ما تبقّى من أسس يمكن الارتكاز إليها في الخروج الصعب من الأزمة الاقتصادية.
من تلة القصر الجمهوري تُرمى كرة اللهب إلى تلة الخياط، لترمى من تلة الخياط إلى تلة بعبدا مجدداً، في وقت يقف أحدهم عند تلة كسروانية، وثانٍ عند تلة شوفية، وثالث عند تلة باريسية، مترقباً الحريق الكامل الذي يمكن أن يعيده مجدداً إلى حلبة المصارعة على الطريقة الرومانية القديمة، غاسلاً يديه من دماء هذا الشعب الصدّيق.
الغريب في الأمر، أنّ اللعبة باتت تدور بعيداً عن أيّ قواعد حاكمة، فإذا كان مفهوماً ـ وغير مبرر في آن ـ أن يبني رئيس الجمهورية، ومعه جبران باسيل، على نقاط ارتكاز سياسية، تجسّدها حيثية برلمانية وشعبية (ولو متضائلة قياساً إلى مرحلة ما قبل 17 تشرين الأول)، فإنّ رئيس الحكومة المكلّف يتصرف تماماً على قاعدة «قوة دياب في ضعفه» التي ستقوده عاجلاً أم آجلاً إلى مجرّد عضو في نادي رؤساء الحكومة السابقين.
هكذا يذهب حسان دياب بعيداً في تجاوز قواعد اللعبة، من دون أي ظهير سياسي أو شعبي. رهانه على استمالة الحراك الشعبي فشل منذ اللحظة التي لم يذهب إلى داره أحدٌ من «الحراكيين» بُعيدَ تكليفه. أما الدعم الدولي الذي حصل عليه من باب الدعوات الدولية الى تشكيل حكومة جديدة تلاشى تدريجياً، ليتبخّر في نيران الإقليم المشتعلة منذ ليل 2-3 كانون الثاني.
وأما الحاضنة السياسية، وهي وحدها ما تبقّى له لكي يستطيع أن يحكم، فيستنزفها بنفسه، تارةً بـ«تكبير حجر» التشكيل الوزاري، وتارة بقيود يفرضها على الأقطاب التي يُفترض أن تكون وحدها القادرة على تغطيته بمظلتها، بعدما حال الاستقطاب الداخلي دون مجرّد التفكير بغطاء الآخرين، الذين اختاروا منذ البداية التموضع في خانة المعارضة القاسية، منذ أن اختارت واجهتهم السنّية - سعد الحريري ـ إخلاء الحلبة، والتمركز بين «بيت الوسط» واحدى فيلات باريس.
ربما يراهن حسان دياب على معادلة «إما أن أكون (رئيساً للحكومة) أو لا يكون أحد»، وهي نفسها المعادلة التي حاول الحريري فرضها، وقد ينجح فيها، طالما أنّ البلد يعيش أزمة بديل، منذ أن حيّد الحريري الأب في تسعينيات القرن الماضي، أي شخصية سنّية وازنة من الحياة السياسية.
بمعنى آخر، قد ينجح دياب في إمرار تشكيلة حكومية بالأسماء التي يريدها، ولكن حكومة كهذه تخاطر بفقدان كل الصلاحيات الضرورية للقيام بمهمتها الوحيدة، وهي تجاوز الأزمة الاقتصادية، او بالحد الأدنى تأخير الانهيار.
بعد أسابيع، تستحق سندات لبنان بالعملة الصعبة، والتحذيرات الدولية تتوالى من أنّ المخاطر الاقليمية وانعكاساتها الاقتصادية والمالية لن يكون لبنان في منأى عنها. فكيف يمكن لحكومة من دون غطاء سياسي ثابت أن تتصدّى لكل هذه التحدّيات؟
من هنا، ربما يمكن فهم السبب في أن يطلب حاكم مصرف لبنان صلاحيات استثنائية من الحكومة، لتنظيم الاجراءات المصرفية، التي تتجاوز الـ«كابيتال كونترول» وما عداها من إجراءات تقنية، لتشمل السندات الاجنبية، التي لم تعد هنالك من خيارات واسعة لاحتواء الآثار الكارثية للتعثر في سدادها.
الأكثر غرابة مما سبق، أنّ لعبة التشكيل الحكومي تتجاهل المتغيّر الخارجي المستجد بعد اغتيال قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، والتي جعلت المنطقة برمّتها، ولبنان في عين عواصفها، أمام مشهد المواجهة، التي لا تنفع معها حكومة تكنوقراط «مخصية» سياسياً، خصوصاً أنّ هذا الشكل من الحكومات، كما اثبتت التجارب الكثيرة حول العالم، هي شكل من أشكال الانتحار في الأزمات الصعبة، التي لا يمكن مواجهتها إلّا بحكومة سياسية بالدرجة الأولى، سواء سُمّيت «حكومة وحدة وطنية» أو «حكومة لمّ شمل»، لا فارق، طالما أنّها ستكون قادرة على تأمين المظلة لمواجهة التحدّيات الكبرى.