في أقل من ثلاثة أشهر وثلاثة ايام اكتشف اهل السلطة انهم ارتكبوا سلسلة من الأخطاء الجسيمة التي يمكن ان تؤدي الى نقل البلاد من مكان الى آخر لا يتمناه احد، رغم حجم المكابرة التي يمارسونها والاعتقاد أن كل شيء على ما يرام وأنّ البلاد ستنتقل الى وضع أفضل. وهو امر قد يؤدي بها الى اعتبارها دولة فاشلة ومارقة قد تتخلف عن تأدية واجباتها تجاه مواطنيها والتزاماتها تجاه المجتمع الدولي، وقد تجلى ذلك في حرمان لبنان من حق التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بعدما نَسي اللبنانيون دفع المتوجبات من رسوم الإشتراكات عن سنتي 2018 و2019.
لا تقف الأمور عند هذا الحد، فالعلاقة بين لبنان والأمم المتحدة يمكن ترميمها بسرعة نقل المتوجبات المالية على لبنان الى صندوقها في أيام، لكن ما هو صعب يقف عند القراءة الموضوعية لِما آلت إليه الاوضاع على اكثر من مستوى سياسي ونقدي ومالي واجتماعي، في ظل شعور عارم بالفشل يعترف به المسؤولون الكبار في سرهم ويتبادلون الإتهامات ويتقاذفون المسؤوليات في العلن.
لا يستطيع اي من المسؤولين إخفاء مسلسل الأخطاء المرتكبة، فقد حفلت السنوات الأخيرة بكثير من المواجهات التي عزّزت الانقسامات الداخلية نتيجة السباق على المواقع وفق منطق المحاصصة ونتيجة الإنجراف نحو الأحلاف الخارجية التي اقتادت بعض اللبنانيين الى حيث لا يريد آخرون، فتعزّزت أجواء الخلاف مع المجتمعين العربي والدولي وساءت العلاقات مع دول الى درجة لم يحتسبها أحد قبلاً، وبات لبنان على لائحة الدول المنسيّة بعدما كان يستقطب اهتماماً متميّزاً.
قد يكون من الصعب تناول مختلف القضايا التي يختلف حولها اللبنانيون رغم تردداتها السلبية الخطيرة، ولكن الوقوف عند بعضها يبقى الأجدى فما آلت اليه الأوضاع النقدية والاقتصادية بعد السياسية، قد تجاوزت كل الخطوط الحمر ولم تعد مداواتها بالمعالجات العادية أمراً ممكناً، في مرحلة هي الأخطر تعيشها المنطقة وتلقي بظلالها على الساحة اللبنانية رغم تحييدها لفترة طويلة أبعدت عنها النيران المشتعلة في دول الجوار.
وعليه، فقد توقف المراقبون أمام سيل الأخطاء التي وقعت فيها السلطة التي لم تنجح منذ سنوات بإقفال أي من الملفات الكبرى المفتوحة. فأرجأت البَت ببعضها بعد الفشل في حلها، واقفلت أخرى على زغل وهو ما أدى الى تجددها اكثر من مرة. ولذلك لم يكن من المنطقي ان يستمر ارتكاب الأخطاء الفظيعة من دون وجود من يحاسب، فجاءت الإنتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول الماضي لتقلب التطورات رأساً على عقب، ونزل اللبنانيون الى الشوارع وقطعوا شرايين التواصل الرئيسة بين المناطق وصولاً الى مرحلة الشلل، في الوقت الذي كان من واجب الدولة ومؤسساتها تَبنّي مطالبهم في ظل اعترافهم بكثير مما عبّروا عنه، ولاسيما ما بلغه حجم الفساد في الإدارة التي سارع البعض الى كيل الإتهامات بغية تشويه مقصدها.
وعند احترام البعض وتقديره لِما عبّر عنه اللبنانيون ومسارعتهم الى استيعابها بأقل الخسائر الممكنة، اقتصرت ردات الفعل على استقالة الحكومة من دون التفاهم على البديل وما يمكن القيام به لملاقاتها في منتصف الطريق. وفشل اهل الحكم في إرساء القواعد المؤدية الى ضم ما أنجزته الإنتفاضة الى ما يرغبون به من إنجازات، فوقعت المواجهة بين من تنكّروا لأهدافها وبدأت محاولات الإلتفاف عليها. وبدلاً من التخفيف من وهجها تفاقمت الأمور وصولاً الى تقديم وجه غير مرغوب فيه لها، فبدأت بوادر الفتنة السنية ـ الشيعية تذرّ بقرنها من شوارع مختلفة.
من الواضح انّ تسمية الدكتور حسان دياب لتأليف الحكومة كان سبباً في إنعاش بوادر الفتنة، وتعددت الأيدي المحلية والإقليمية التي سارعت الى استغلال الشارعين الشيعي والسني للتعبير عن رفضه لِما آلت اليه الإستشارات النيابية الملزمة، فبلغت حدّتها في أكثر من مناسبة قبل ان تنجح الإنتفاضة في إعادة تصويب البوصلة بابتداع آليات أخرى أعادت توحيد القوى المعارضة. فلجأت الى سلسلة من الخطوات الصادمة والمفاجئة، ليس أقلها عمليات طرد المسؤولين من المواقع العامة والمسارح الجامعية والمطاعم، واقتحام الدوائر الرسمية التي يعشش فيها الفساد، والتظاهر امام مصرف لبنان والمصارف الخاصة لإلقاء الضوء على ما بلغته الأزمة النقدية ممّا لا يعرفه اللبنانيون مرة منذ عقود من الزمن.
وعليه، ينتهي المراقبون الى الإشارة بما يشبه اليقين انّ الدولة ومؤسساتها ما زالت مهيّأة لتقديم الهدايا الى الإنتفاضة على مجموعة من الأطباق الذهبية. فارتفاع الدولار وحجم غلاء المواد الغذائية والأساسية التي تحتاجها العائلة الفقيرة، والتقنين في التعاطي مع العملات الأجنبية وما تركته أزمة الأقساط المدرسية والكهرباء وسيول الأمطار تهدد كلها بانضمام بقية اللبنانيين الى المنتفضين في مرحلة باتت خلف الأبواب القريبة. فقد أقفلت كل مساعي التأليف لتوليد حكومة جديدة تعيد ثقة اللبنانيين والمجتمع الدولي بإمكان بقاء لبنان حيّاً بأقل الدرجات والمعايير المطلوبة إقليمياً ودولياً، وهو ما سيشكّل أكبر الهدايا التي ينتظرها قادة الإنتفاضة التي بدأت تضع اللمسات الأخيرة على الفصل الثاني.
وختاماً، لا بد من الإشارة الى انّ المرحلة الثانية من الانتفاضة ستكون أقسى وأصعب بكثير على أهل الحكم والحكومة، خصوصاً إذا انضَمّ البعض منهم الى جياع لبنان، سواء كانوا من المتضررين القدامى او الجدد نتيجة تصرفاتهم، ما لم يعترفوا ولو متأخّرين بسلسلة الأخطاء والجرائم التي ارتكبت بحق لبنان واللبنانيين، ليبدأ مشوار جديد ليس من الصعب رسم عناوينه.